لذعة البرد الجميلة فى الهواء..
الهواء البارد الذى نتنسمه، والدفء الداخلى الذى نستشعره، وشمس الشتاء الفضية نفرح بها حين نراها.
مرحبا بالشتاء..
عبر زجاج النافذة شرعت أتطلع إلى سماء ديسمبر الرمادية التى تتهيأ للإمطار. كان الطريق مكتظا بطلاب المدارس الثانوية ذوى الزى الموحد. ومنذ عشرين عاما كنت أحدهم.
ديسمبر إلى الوراء.. عشرون عاما إلى الوراء....
كان عمرى حينئذ ستة عشر عاما. عمر الزهور. وكان ديسمبر يفوح بعبق حبٍ رائحته أزكى من الورد النضر.
هى صديقة قديمة وزميلة سابقة فى المدرسة الابتدائية. اكتشفت أننى أحبها فى إحدى ليال ديسمبر. كانت تتحدث فى الطريق مع أحد زملائنا القدامى.
اشتعلت فجأة بالغضب، ولم أشعر بنفسى إلا وأنا أجذبها فى حزم من معصمها إلى مدخل بيتها.
رمقتنى فى غضب، ثم فى دهشة، وما لبثت أن ابتسمت..
ديسمبر إلى الوراء.. منذ عشرين عاما..
البرد الجميل يدفعك أن تسرع الخطى وأنت تتجول حول منزل حبيبتك. هى تقف فى الشرفة وعيناها تلمعان. تنطقان بحب الحياة. فتاة فى السادسة عشرة تتساءل عن حظها فى الحياة.
ويعود الحارس المخلص إلى داره ليتلقى تأنيب والدته مبتسما. ثم يدلف إلى الشرفة المنداة بندى ديسمبر. يرسل سلامه إلى الطرقات المغسولة بالأمطار. ويتعرّف على رائحة الهواء ذات الشجون، ويرنو إلى نافذتها الموصدة بوجدٍ ثم ينام.
لكن ذلك كله قد ولى.
هى تزوجت وأنجبت ثلة من الأطفال الذين التحقوا بمدرستنا القديمة. ازدادت وزنا وامتلأت شحما ولحما واغتربت عن وجهها الجميل القديم.
وأنا صار وجهى بليدا كروحى. ولم أعد أعرف نفسى كلما تطلعت إلى المرآة.
وديسمبر صار شهرا مزعجا أخشى فيه من الإصابة ببرد.
كل شىء قد تغير إلا ذلك المشهد الجميل.. الطلبة الذين يتدافعون فى الطرقات مبتهجين بهطول الأمطار. يتمايلون على إيقاع داخلى بدائى يشبه رقص أجدادهم لجلب الأمطار.
عبثا ما أفتش الآن عن وجهها القديم وسط مئات الوجوه الناعمة التى ترتدى ذات الزى الجميل الذى لطالما ارتديناه. عبثا ما أفتش عن وجه غاب منذ عشرين عاما.
السماء تتهيأ كى تمطر. لحظة حزن شتائى مفاجئة غمرت قلبى سلاما.
طفقت أرمق الطلاب وهم يتعابثون فى مرح ويحتمون بمداخل المنازل من الأمطار المتساقطة مثلما كنا نصنع منذ عشرين عاما.
رائحة المطر هى هى!ّ رائحة ديسمبر منذ عشرين عاما أعرفها جيدا. لكن شيئا ما لم يزل ناقصا. شيئا بمثابة الروح. المطر يتساقط برشاقة على النوافذ مثلما كان ينقر على رأسى وأنا أرنو إليها ولا أكاد أشعر به. هى الأخرى كانت تقف فى الشرفة تتأمل الأمطار وترنو إليٌ. وتملأ صدرها بذات الهواء المنعش الجميل. وأسطح السيارات تلمع بها آلاف اللآلئ من قطرات المطر، تضيئها أشعة الشمس التى تتسلل برفق من خلال السحاب الرمادى المتناثر، والطرقات لامعة لامعة. وكل شىء مثلما هو إلا شىء واحد لم أزل أفتقده.
رفعت بصرى قليلا فتجمدت من الدهشة.
لم تكن هى فحسب تقف أمامى فى نافذة قريبة ترنو إلى المطر وتبتسم، وإنما كنت أنا أيضا واقفا على نافذة مقابلة.
شابان فى عمر الزهور، يتطلعان معا إلى مطر ديسمبر وهو يتساقط بنغم موسيقى يبوح بسر لا يفهم رموزه المسحورة غيرهما أحد.
أوصدت النافذة وأنا أبتسم.
ديسمبر…
ما أجمل أن يعود من جديد..