x

عمرو الزنط تجربة علمية فى طبيعة الأوضاع المصرية عمرو الزنط الجمعة 11-12-2015 21:34


أريد الحديث عن تجربة إقامة ورشة علمية عالمية قمت بدور المنظم الرئيسى فيها لاحقا.. ليس لأهميتها العلمية بالنسبة لى، رغم أن ذلك بالطبع كان السبب الشخصى الأساسى لخوض التجربة (وسأتحدث عنه فى مقال قادم)، إنما لأن التجربة كانت مفيدة فى فهم أوضاع البلاد ونظرة العالم لها.

لحسن الحظ «كنت عامل حساب الظروف»، فتصرفت مثل شركات الطيران فى مثل هذه الظروف وعملت «أوفر بوكينج»- أى بعثت بدعوات أكثر مما كانت تتحمله الميزانية (من تأجير قاعة المؤتمرات ودعم مصاريف إقامة بعض المشاركين) ترقبا للاعتذارات. لذلك، «حصل خير». لكن التجربة كانت مقلقة، وفى أكثر من مرحلة أشار لى بعض الزملاء بالتخلى عن الفكرة، نتيجة تردد العلماء العالميين. كنت أفكر فى الإلغاء فعلا، لكن حال دون ذلك إيمانى بأن هذا النوع من التلاقى فى غاية الأهمية- وخاصة فى مثل هذه الظروف، لأن الإرهابى ومن يدعمه فكريا يريد وضعنا فى عزلة عن العالم، فهو يزدهر فى بيئة العزلة ويعشقها.. وأيضا إيمانى أن أى مشاركة فى دعم العلوم الأساسية فى مصر لها أهميتها، حتى لو كانت متواضعة.

«الأوفر بوكينج» أفادنى عندما تكررت الكوارث المتفاقمة فى المنطقة وتأزمت الحالة فى شمال سيناء (لاحظ أن معظم المدعوين، حتى إذا كانوا علماء عالميين، لا يعرفون خريطة مصر جيدا!)، ثم حدث طائرة شرم الشيخ ومذابح باريس وكاليفورنيا.. فبعدها توالت الاعتذارات- بل قال أحدهم إن مجيئه لمصر فى مثل هذه الظروف قد يسبب أزمة فى علاقته مع زوجته، التى تخاف عليه! بالطبع الوضع العام فى المنطقة والكوارث المتكررة لها أثر. لكن، كما سأشرح فيما يلى، أعتقد أن هناك أسبابا أعمق لهذا النوع من الذعر.

خلال الشهور الماضية كان من الصعب تفادى المقارنة بتجربتى السابقة فى عقد مثل هذه المؤتمرات فى مصر.. كان ذلك فى ربيع ٢٠٠٦، عندما قمت بالتعاون مع مكتبة الإسكندرية لعقد مدرسة لتدريب الطلاب المصريين والعرب فى مجال الفيزياء الفلكية. آنذاك، تسابق عدد من نخبة أعظم العلماء العالميين فى المجال للحضور، رغم أن المدرسة العلمية تتطلب جهدا ووقتا أكبر بكثير من قبل هؤلاء العلماء، المنشغلين باستمرار فى البحث والمشاريع، وجلب المنح التمويلية والطلاب والباحثين المتميزين لمجاميعهم البحثية الخ...- فتلك «المدرسة» مثلا استمرت لمدة أسبوعين ألقى فيها العلماء عدة محاضرات طويلة، بالمقارنة بورشة ستدوم أربعة أيام يلقون فيها محاضرة واحدة من ٣٠ إلى ٤٠ دقيقة.

أعتقد أن الفرق لا ينبع فى الأساس من ظروف طارئة، حتى إن كانت هذه تشكل السبب المباشر وراء تخوف البعض من زيارة البلاد. أعتقد- وهذا الاعتقاد مبنى على مناقشات مع بعض العلماء ممن أعرفهم بشكل كاف، يتيح النقاش فى مثل هذه المواضيع- أعتقد أن هناك تغيرا جذريا فى النظرة للبلاد، حدث خلال الأعوام الماضية.

فى ٢٠٠٦ كان معظم العلماء المدعوين ينظرون لمصر كدولة «متوسطية» فى الأساس- ربما نسخة «إسلامية» وأفقر اقتصاديا من اليونان مثلا، لكن مشابهة لها فى جوانب كثيرة.. فى الحضارة القديمة والتراث الهيلينى فى فترة البطالمة، فى التعدد الثقافى حين سكنت مدن مصر جاليات معتبرة من منطقة البحر المتوسط الخ.. فى هذا الإطار كانوا ينظرون لحضورهم لمكتبة الإسكندرية الجديدة كمساهمة فى إحياء وتطوير اندماج مصر المتوسطية فى عالمها الطبيعى، ومن ثم إعادة مشاركتها الفعالة فى ركب الحضارة.

أما الآن، فالنظرة هى أننا نسخة متماسكة نسبيا (وربما مرحليا) من سوريا أو العراق.. ذلك لا يأتى فى الأساس نتيجة حادث إرهابى هنا أو هناك، أو حتى العنف المستمر فى سيناء، إنما نتيجة مجمل «منظر» السنين الخمس الماضية- من سوء إدارة مذهل لما سمى بالمرحلة الانتقالية، والذى أدى لعنف فوضوى متكرر (بما تخلله من بلطجة ومناظر البلطجة)؛ إلى القصور الحاد فى عمل أجهزة الدولة (بما فى ذلك الأمن) الذى ظهر فى زمن المحنة؛ إلى عدم الجدية المرعب الذى أظهرته النخب السياسية؛ إلى الفراغ السياسى شبه الكامل المصاحب والنابع عن غياب نخب سياسية مدنية (أو دينية) باستطاعتها سد الفجوة.. إلى التجريف الثقافى شبه التام الذى ظهر على شاشات العالم من خلال أحاديث ممثلى «النخبة»، وكلام مترجم من صحافتنا المكتوبة عن آخر نظريات المؤامرة الدارجة (وغيره من هراء).. و«لقاءات» مثل التى أقامها الوفد المصاحب للرئيس فى المانيا، والتى أظهرت أننا بعيدون عن العالم المعاصر، لا نملك الرغبة والنية، أو القدرة والجدية الكافية، للاندماج والمساهمة الفعالة فى حضارته.. بصرف النظر عن نظرة العالم، يجب أن نسأل أنفسنا عن أساس هذا الوضع، لأننا نحن المتضررون فى الأساس.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية