هناك سنوات في حياة الأمم والشعوب تكون مفصلية، وتظل عالقة في الأذهان ،تتحول لتاريخ يعطف عليه ما قبله وما بعده، كما نقول الآن قبل «ثورة يناير» وبعد «ثورة يناير».
بالنسبة للملكة العربية السعودية عام 2015 من هذه الأعوام التي يؤرخ بها، تتابعت فيه الأحداث وتشابكت وتعقدت ووصلت إلى ذروتها.
بدأ العام بوفاة الملك عبدالله رحمة الله عليه وتولى الأمير سالمان ولى العهد ووزير الدفاع الحكم ،وتلى ذلك تحولات داخلية وخارجية ،في الربع الأول منه بدأت عملية عاصفة الحزم لتأديب الحوثيين الخارجين عن الشرعية بقيادة السعودية،وفى النصف الثانى ( تحديدا في شهر يوليو الماضى )تم توقيع الاتفاق النووى الإيرانى الذي اعتبرته السعودية طعنة من أمريكا الحليف الاستراتيجى ،التي اعطت بذلك فرصة لإيران لبسط نفوذها في المنطقة على حساب أمن الخليج ونفوذ السعودية ورغم محاولات الإدارة الأمريكية طمأنة الخليج عموما والسعودية خصوصا فلم تفلح في ذلك، وفى الثلث الأخير من العام واثناء موسم الحج ُمنيت السعودية بحادثين ثقال أولهما سقوط الرافعة في الحرم المكى ثم التدافع المأسوى في منى، وراح ضحية الحادثين عدد كبير من الحجاج أغلبهم من الإيرانيين، واستغلت إيران ذلك للحديث عن تدويل المقدسات الإسلامية والمشاركة في إدارتها مع السعودية وبالطبع رفضت السعودية هذا التدخل ولكنه أثار مزيد من الشكوك حول خطر تمدد النفوذ الإيرانى وماقد يتبعه من تدخل في الشؤون الداخلية للسعودية وغيرها من دول الخليج، ومع نهاية سبتمبر، طلب الأسد المساعدة من روسيا، بعد فشل التحالف الدولى في القضاء على داعش رغم الآف الطلعات الجوية.
بدأت روسيا في توجيه ضربات جوية مستهدفة في المقام الأول داعش وباقى الفصائل المعارضة للنظام والتى اعتبرتها إرهابية ،هذا التدخل الروسى كان له تأثير بالغ على الأرض فالحديث عن رحيل الأسد كخطوة أولى للوصول لحل سياسى في سوريا تم استبداله بالحديث عن مرحلة انتقالية يكون فيها الأسد حاضرا، وهو ماترفضه السعودية، شهد عام2015 مولد التحالف السعودى التركى القطرى على حساب التحالف المصرى السعودى الإماراتى، توحد رؤى الدول الثلاث بالنسبة للملف السورى كان أساس تشكيله على اعتبار انه مناوىء للحلف السورى الإيرانى الروسى، لكن جاء حادث إسقاط الطائرة الروسية من جانب تركيا ليضرب هذا الحلف في مقتل، فهذا الفعل الطائش الغير محسوب بدقة، أدى لخسارة تركيا موقعها الفاعل على الأرض السورية وبالتالى تأثيرها في المفاوضات، فلقد ازاحها الدب الروسى تماما من المشهد، ولن تستطيع مليارات الاتحاد الأوروبى ان تعوضها عن خسائرها الاستراتيجية في سوريا، تركيا تحاول الآن تعويض خسارتها في سوريا بتكثيف قواتها في العراق، فهى تدرك تماما ان الدب الروسى يمكن ان يستخدم ورقة الأكراد للضعط عليها، الحلف الجديد لم يعد له الأهمية المرجوة ،وخاصة بعد اتهام روسيا للدول الثلاث بتمويل الإرهاب في سوريا وغض الطرف عن داعش، وهذه الاتهامات تجد رواجا في بعض الدوائر الأوروبية الحليفة وكان لها تأثير على قرارات الإدارة الأمريكية الأخيرة....للأسف الرياح لا تأتى بما تشتهى السفن السعودية.
الملك عبدالله كان مساندا لمصر رغم موقفها المعلن من الملف السورى، فمصرتتحدث دائما عن ضرورة العمل لإيجاد حل سياسى للأزمة السورية بعيدا عن الخيارات العسكرية وهو ما يقال الآن، كانت قناعة الملك عبدالله رحمة الله عليه أن سقوط مصر وتعثرها سيؤثر على أمن الخليج والمنطقة كلها، الدعم السعودى المالى والسياسى لمصر كان كبيرا ومؤثرا ولايمكن إنكار أهميته وخاصة موقفها من قطر الذي كان لصالح مصر، تحولت الأمور بعد وصول الملك سالمان للحكم، الملف السورى أصبح أكثر تعقيدا، ثم جاءت عاصفة الحزم وشاركت مصر لكن بتحفظ، فمصر لديها تجربة سيئة مع التدخل العسكرى في اليمن وتدرك مدى صعوبة الأمر وارتفاع تكلفته البشرية والعسكرية، وبدا الأمر وكأن مصر لم يعد لديها ماتقدمه للسعودية وأمن الخليج وخفت الحديث عن القوة العربية المشتركة وتعبير «مسافة السكة».
وتصورت السعودية أنها وجدت في تركيا السنية حليف اقليمى يمكن أن يواجه النفوذ الإيرانى الشيعى وخاصة في سوريا،التنسيق بين السعودية وتركيا كان بوساطة قطرية، ولعل اجتماع الملك سالمان مع خالد مشعل ،رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وماقيل عن مقابلات بين قادة الإخوان المسلمين ومسؤولين سعوديين، دليل على التغيرات في السياسة السعودية، وكان لهذا تأثير ملحوظ على العلاقات المصرية السعودية رغم إنكار الطرفين ذلك وتأكيد ان كل شىء على مايرام، وان العلاقات المصرية السعودية في أحسن حال...هناك أزمة ولو لم يصرح طرف بذلك.
الحديث عن أزمات الدول دائما يصب في تصور الأزمة الاقتصادية، صحيح ان الأزمات الاقتصادية تكون ملحة وعاجلة ولكن هناك دائما أزمات أخرى تسبق الأزمات الاقتصادية، ومنها الاختيارات السياسية الخاطئة، التدخل في حروب تستنزف مواردالدولة،عدم رضاء الشعب عن الحاكم، الاستبداد والقمع والفساد وكلها موبيقات تفسد الحياة وتعطل الابداع والانتاج وتمثل أزمة حقيقية.أزمة الوطن العربى من المحيط للخليج ليست في قلة الإمكانيات ولكن في هدرها، وما يحدث الآن اكبر دليل على ذلك.
السعودية ليست مصر، ومصر ليست السعودية، كلاهما له تجربته السياسية وظرفه التاريخى، ولكن البلدين الشقيقين يقفان في موقف صعب رغم اختلاف الأسباب، مصر بظروفها الداخليةالمعقدة والخارجية المحبطة، والسعودية في ظل توسع النفوذ الإيرانى الذي يحاصر السعودية وزاد الطين بله التدخل الروسى المباشر في سوريا والذى قلب الأوضاع رأسا على عقب.
الوطن العربى يواجه تحدى حقيقى، وعليه ان يواجه تلك التحديات ببعض الدهاء، وعدم التورط في صراعات تضعف من قوته وتلتهم إمكانياته وخاصة الدول التي تعد ذات نفوذ وثقل اقليمى، والمملكة العربية السعودية من هذه الدول ،وعليها ان تتخذ القرار الصعب قبل فوات الآوان، وخاصة ان الظرف مواتى على صعيد اليمن وسوريا.
بالنسبة لليمن المبعوث الدولي إسماعيل ولد شيخ أحمد صرح مؤخرا أن الأطراف اليمنية وافقت على إجراء مفاوضات سلام يوم 15 ديسمبر الحالى بجنيف،وينتظر ان تكون نتائجها إيجابية على عكس مفاوضات السلام التي اجريت في يونيو الماضي ولم يتم التوصل فيها إلى نتيجة، وبالطبع للسعودية دور كبير في هذه المفاوضات ويمكنها أن تدفع نحو إيجاد حل لوقف القتال في اليمن، والتوصل لتسوية ترضى الأطراف المتنازعة دون فرض شروط مسبقة ومجحفة تؤدى لفشل المفاوضات.
مع مطلع العام القادم سيبدأ مؤتمر جنيف 3، والذى سيجتمع فيه المعارضة السورية والسعودية لهانفوذ كبير على هذه المعارضة، ويمكنها ان تدفع ايضا لإيجاد حلول واقعية ربما لاتطابق التصورات السعودية السابقة عن الحل الأمثل ولكنها تؤدى إلى الخروج من عنق الزجاجة، الحرب السورية اثمرت عن خراب ودمار وشتات ملايين السوريين وإنتشار الإرهاب ليس على الأرض السورية فقط لكنه انتقل لدول الجوار واوروبا. القرارات الصعبة ثقيلة على النفس لكن نتائجها مضمونة على المدى الطويل... بعد غلق الملف السورى واليمنى يمكن للسعودية أن تبدأ بتأسيس القوة العربية المشتركة التي دعت إليها مصر ووضع استراتيجية واضحة طويلة المدى للتصدى للنفوذ الإيرانى وغيره ....نجاة العرب في وحدتهم ...فهل يفعلونها ؟؟.