أين اختفت رودينا؟
ظل السؤال يتردد لفترة طويلة بعد اختفاء رودينا من الصحيفة فجأة، فلا أحد يعرف هل سافرت إلى الخارج؟ أم تزوجت واعتزلت العمل في الصحافة؟، أم أن هناك قصة مجهولة أكثر إثارة وغموضا من تلك الفاتنة التي هزت عرش الجريدة، وصارت معشوقة الجميع من عامل الأسانسير وحتى رئيس مجلس الإدارة!
لا أحد يعرف كيف التحقت تلك الفتاة العشرينية بالعمل في القسم الدبلوماسي للصحيفة اليومية الكبيرة، ولا أحد يعرف الكثير عنها، بالرغم من أنها ودودة، تجيد أصول الإتيكيت وتتعامل برقة وأدب جم مع الجميع، لكن كلماتها دائما محدودة ومحسوبة، تفيض على الجميع بابتسامة عذبة تقضي على أي إحساس بالغربة أو الفضول، فتشعر كأنك تعرفها منذ سنوات طويلة، وتذوب تحت لسانك الأسئلة التي أرهقت ذهن الجميع، وفي مقدمتهم هناء إلهة النميمة كما يلقبها الأستاذ عناني رسام الكاريكاتير العجوز.
من هي رودينا؟ ومن أين هبطت علينا ؟ قالت هناء إنها استنفدت كل أساليبها في التقصي وتتبع المصادر، لكنها لم تعثر على إجابة تشفي غليلها، حتى أنها اضطرت لتشغيل مصادر أجنبية من خارج الجريدة، واستطاعت من خلال صديقة لها في النادي تسكن بجوار لميس سكرتيرة رئيس مجلس الإدارة، أن تعرف معلومة وحيدة، وهي أن رودينا ابنة وحيدة لرجل أعمال إسكندراني يعيش بين مصر والخارج، وأمها فنانة هولندية من عشاق الآثار المصرية.
كانت رودينا تشبه «درو باريمور» في الفيلم الرومانسي Never Been Kissed، ليس من حيث المظهر فقط، ولكن من حيث المواصفات النفسية والجمالية لشخصية الصحفية المثالية «جوسي جيللر»، التي تدقق في كل شيء، وتهتم بالتفاصيل، و«النمنمة» و«الحنتفة»، وكانت الصحفيات في الجورنال يعقدن اجتماعات يومية للتعليق على ملابس رودينا وإكسسوارتها، وحركاتها، وطريقة توزيعها للابتسامات وتحية الصباح، كانت تشبه دبلوماسيا أرستقراطيا تربى في القصور، حتى أصبحت البروتوكولات جزءا أصيلا من شخصيته، لا يُخطئ فيه مهما كانت الأسباب، أو الحالة المزاجية التي يمر بها.
تقول هناء إن رئيس مجلس الإدارة تحول بعد أسابيع قليلة إلى «مجنون رودينا»، واستخدم كل الطرق للفت نظرها، لكنه (يادي الخيبة) لفت نظر الجورنال كله ولم يلفت نظرها.. قالت هناء الجملة الأخيرة وهي تضحك ضحكتها «المسرسعة» التي تشبه ضحكة نجوى سالم، ممثلة فرقة الريحاني.
أضاف الدونجوان الأعزب حاتم التاجي أنه يشعر بالخجل أمام هذه الفتاة بالذات، فهي راقية ومهذبة إلى الدرجة التي لا تفهم الغزل ولا المعاكسات، وترد عليها بالتحية والشكر، كأنها مجاملات بروتوكولية متعارف عليها!
قالت مها سكرتيرة التحرير إن الأستاذ عبدالرحمن، رئيس قسم التصحيح، سألها أثناء حفل إفطار في رمضان: هل تعرفين معنى اسمك؟، فابتسمت وهزت رأسها بإشارة نعم، لكنها لم تقل شيئا، وفي اليوم التالي دفعني الفضول لسؤال الأستاذ عبدالرحمن فقال: الاسم له معنيان في اللغة، فهناك من يطلقه على رمح للرسول صنعته امرأة اسمها «ردينة» أو «رودينا»، وسُمي «الرمح الروديني» نسبة إليها، وهناك من يقول إن «رودينا» هو اسم الغمامة التي كانت تظل الرسول في رحلات التجارة، فقلت سبحان الله كأن الاسم متفصل عليها في الحالتين.
عادت هناء لتستعرض معلوماتها الاستخباراتية التي تخلط بين الحقائق والخيال، فقالت إن الأستاذ عاكف، رئيس مجلس الإدارة، كان يجاملها بالسفريات الكثيرة إلى الخارج، ومضاعفة بدل الانتقال، والحجز لها في أفخم الفنادق، وكان قسم الموارد البشرية يعاملها كأنها ملكة متوجة بأوامر مباشرة من الريس، لكنها تصورت أن هذه هي التصرفات العادية مع كل الزملاء، فكانت ترد بابتسامة وميرسي، وانتهى الأمر، لكن الأستاذ عاكف لم ييأس، وحاول أن يظهر اهتمامه ومعاملته الخاصة لها، فدعاها لاجتماع عمل، ووجه لها الكثير من الشكر وأشاد بنشاطها، وتحدث بمبالغة عن إمكانياتها التي أضافت الكثير للمؤسسة، وأنه يريد أن يساعدها في استثمار علاقاتها في مجال الإعلان، خاصة أن ذلك سيعود عليها بمبالغ كبيرة، لكن رودينا اعتذرت بأدب، وأكدت أنها لا تريد أن تخرج عن حدود العمل الصحفي، وبعد شهر من هذا الاجتماع فوجئت باستدعاء آخر من رئيس مجلس الإدارة، كرر فيه أسطوانة المديح، وأخبرها بأن مندوبي الإعلانات حصلوا على عقود كبيرة من خلال متابعة الأماكن والمصادر التي تعمل معها، وبفضل الموضوعات التي تنشرها، وتعجبت رودينا من هذه المعلومات، لكنها تصرفت بهدوئها المعتاد، فابتسمت وقالت ميرسي، وبادرت بالاستئذان لارتباطها بموعد عمل.
فتح الأستاذ عاكف «الوراقة» الموجودة على مكتبه، وأخرج مظروفا صغيرا، ومد يده لها قائلا: دي مكافأة بسيطة من المؤسسة، نسبتك القانونية في حصيلة الإعلانات.
اختفت ابتسامة رودينا، وقالت بارتباك: مكافأتي؟.. ليه؟.. أنا ما عملتش حاجة تستاهل مكافأة، عموما ميرسي لحضرتك، اعتبرها حق المؤسسة.
ارتبك الأستاذ عاكف، وأصر أن تقبل المكافأة، لأن الشيك خلاص خرج باسمها، وعدم قبولها للمكافأة سيفتح بابا للقيل والقال.
بطريقتها الدبلوماسية، فضت رودينا الموقف بإحالته للتأجيل، وقالت: خليه مع حضرتك، ونتناقش مرة تانية، لأني مضطرة ألحق ميعادي.
أضافت هناء: بعد هذا اللقاء ظهرت رودينا مرة واحدة في الجورنال، دخلت مكتب رئيس مجلس الإدارة، هناك من يقول إنها خرجت بعد نصف ساعة، فلم تدخل صالة التحرير، ولم يرها أحد بعد ذلك، وهناك من يقول إنها دخلت المكتب لكنها لم تخرج، ولم يشاهدها أحد منذ ذلك الحين.
أين اختفت رودينا؟
لايزال السؤال حتى اليوم بلا إجابة.
[email protected]