لو فكرتَ فى مائة عنوان لفيلم «على عبدالخالق»، الشهير، لما صادفت أفضل من هذا العنوان. كلمة واحدة تُلخص حبكة الفيلم: العار!. الكلمة قوية ومشحونة بمعانٍ شتى. لها علاقة وطيدة بثقافتنا. بأخلاقنا كما نتعلمها ونمارسها. بتكوين ضمائرنا ذاته.
أُذكرك بأن حبكة الفيلم الشهير كانت ترتكز على جدل حاد بين أبطاله حول مفهوم العار: هل هو الانحدار من الغنى والعزة إلى الفقر والهوان، أم هو الانحدار الخُلقى بالتربُح من المخدِرات؟. الجدلُ كان عنيفاً ومتدفقاً عبر تسلسل مُحكم ومنطقى للأحداث. لذلك صار الفيلم من الكلاسيكيات. دقّ وتراً لدى الناس، ومازال يفعل كُلما عُرض.
العارُ، فى أبسط معانيه، هو الشعور بالخجل من شىء ما. هو مفهوم له علاقة بالمجتمع. لا يُمكن أن يشعر الإنسان بالخجل إلا فى جماعة. شعور العار متصل بسؤال أساسى: كيف ينظر إليك الآخرون؟ مثلاً: إذا رآك الناسُ عارياً، فأنت تشعر بالخجل. تُريد أن تختبئ. أن تختفى عن الأنظار. الثقافة الشعبية تعكس هذا المعنى فى عبارات مثل «يا حيطة دارينى»، أو «يا أرض انشقى وابلعينى».
ولأن العار شعور يتصل بالمجتمع، فإن المجتمع هو الذى يُحدد أنواع السلوك التى ينطبق عليها هذا الوصف. يظل الفردُ أضعف حلقات هذه المعادلة. هو بالضرورة منسحق أمام ما يفرضه المجتمع من قيم وأفكار وأعراف وأخلاقيات. خروج الفرد على «الناموس الاجتماعى» كفيلٌ بأن يجلبَ له وغالباً- لعائلته الممتدة- العار. إنه أسوأ شىء يُمكن أن يحدث للإنسان فى المجتمعات التقليدية. العار يعنى أن تكون بلا كرامة، بلا مكانة. أن تُجرد من احترام المجتمع لك. من إنسانيتك ذاتها.
بالرغم من هذا المعنى السلبى لمفهوم «العار»، إلا أنه كان مُحركاً للكثير من الظواهر والاتجاهات فى المجتمعات القديمة. الثقافة اليونانية الكلاسيكية تُعتبر إلى حد بعيد ثقافة قائمة على «العار». جوهر هذه الثقافة كان إحراز التفوق والمكانة فى نظر المجتمع. عنوانها كان تفادى الهزيمة العسكرية وتقبيح الفرار من المعركة. الهزيمة والفرار عارٌ الموتُ منه أهون. أغلب الإمبراطوريات القديمة التى قامت على الفتوحات العسكرية احتاجت لترسيخ هذا المفهوم فى نفوس الرجال من المقاتلين. الشعور «بالعار» لا غنى عنه لأى عقيدة قتالية. فى غيابه، ترتد الغالبية الكاسحة من البشر إلى فطرتها فى تجنب الموت والفرار منه، حتى لو كان ذلك يعنى الهزيمة. القرآن الكريم رمى إلى هذا المعنى فى أكثر من موضع: «مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ»، و«قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا».
فى الثقافة العربية السابقة على الإسلام نصادف كذلك أصداءً مختلفة لفكرة العار. كان هذا المفهوم مُحركاً للكثير من الأخلاقيات النبيلة والوضيعة فى آن. نجد رجلاً ذبح حصانه الوحيد إكراماً لضيفه (حاتم الطائى)، جنباً إلى جنب مع ممارسة قبيحة كوأد البنات. كلا السلوكين مؤسسٌ على «نظرة المجتمع» وما يعتبره سلوكاً حميداً أو أمراً يجلب العار.
فى المقابل، نجد الأديان - الإبراهيمية وغيرها- تُركز على معنى الذنب لا العار. الذنب مفهوم يختلف جوهرياً عن العار. هو علاقة بين الإنسان وربه. إن شئت الدقة، هو علاقة بين الإنسان ونفسه. العار يتحقق فى حالة معرفة المُجتمع بما فعلته من سلوك مُشين. أما الذنب فهو شىء قد لا يعرفه سواك. مع ذلك، فإن الذنب يظل يُلاحقك، ويقض مضجعك. إنه مفهوم أكثر تركيباً من العار. مفهوم يُمثل جوهر ما نسميه الضمير.
الثقافة القائمة على أساس فكرة «الذنب» أكثر تقدماً من تلك التى تقوم على مفهوم «العار». الذنب شعور داخلى. العار علاقة بالمجتمع. الذنب حوار بين الإنسان وذاته. العار رغبة فى تفادى لوم الناس. الشعور بالذنب، وما يستتبعه من نقد ذاتى، هو أساس أى منظومة أخلاقية. الشعور بالعار قد يدفعك لفعل أشياء جيدة، ولكنه قلما يجعل منك إنساناً أفضل.
الأديان تُرسخ فكرة الشعور بالذنب من أجل بناء الضمير الحى اليقظ. الهدف أن يحاسب الإنسان باستمرار (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً). على أن الأديان هى أيضاً مؤسسات، وليست مجرد مُثل عُليا وتعاليم سامية. المؤسسات الدينية- فى كل مكان وعبر التاريخ- تُغرِق فى التركيز على مفهوم «الذنب». هى تستمد سُلطتها من هذا الباب. كُلما اشتد شعور الناس بكثرة الذنوب وصعوبة الخلاص، تعاظمت حاجتهم إلى المؤسسة الدينية. دور الكنيسة فى العصور الوسطى هو أبرز مثال على هذا المعنى. المؤسسات الدينية تُروج للطقوس والممارسات كسبيل للخلاص من الذنوب وإراحة الضمائر من عذابها المُقيم. هكذا تُسهم تلك المؤسسات، عبر الإغراق فى الطقوس والنصوص، فى تنويم الضمائر بدلاً من إيقاظها.
الآن.. إذا تأملت أخلاق المصريين المعاصرين لوجدتها خليطاً من مفاهيم العار والشعور المُبالغ بالذنب. خُذ ظاهرة اجتماعية كحجاب النساء. تأمل انتشارها الكاسح فى عقود معدودة. جوهر الظاهرة هو ترسيخ شعور العار لدى الأنثى السافرة، فى مقابل الشعور بالتفوق والانسجام مع المجتمع لدى المُحجبة. الكثيرات ممن ترفضن الحجاب تقاومن شعوراً مُمِضاً بالعار. أغلبهن يشعرن بذنب دفين. لماذا؟ لأن المؤسسة الدينية روجت لهذا المعنى لسنوات وسنوات. وفى كل الأحوال، فإن المجتمع هو الذى يفرِض السلوك، لا ضمير الفرد أو اختياره الحُر. إنها «ثقافة العار»، لا الضمير.
الضمير المصرى فى أزمة. الأمر يتجاوز مواعظ الفنان محمد صبحى، أو إنشاء لجنة حكومية لتنمية الضمير(!!). جوهر المشكلة أننا نُربى أبناءنا على ثقافة العار، لا حساب النفس. تغرس المؤسسات- الدينية وغيرها- فى نفوسهم مشاعر مبالغة بالذنب من أشياء لا تُحصى. أشياء لا تستقيم حياةٌ سوية من دونها (مثل الصداقة بين الجنسين). بالاختصار: نحن نربى أبناءنا لكى يكونوا مثل أبطال فيلم «العار» الثلاثة، خائفين من نظرة المجتمع لا من حساب ضمائرهم.