x

الأنبا إرميا «فوران... طِلبة غريبة!» الأنبا إرميا السبت 05-12-2015 21:29


تحدثنا فى المقالة السابقة عن حكام «مِصر» من قِبل الخليفة «هشام بن عبدالملك»، وهم: «الحُرّ بن يوسف»، والعامل على الخَراج (جمع الضرائب) «عُبيدالله بن الحَبْحاب»، و«حَفص بن الوليد»، و«عبدالملك بن رفاعة» ثم أخيه «الوليد بن رفاعة»، و«عبدالرحمٰن بن خالد»، و«حنظلة بن صفوان».

«حفص بن الوليد»

(١٢٤-١٢٧هـ/٧٤٢-٧٤٥م)

وُلِّى «حَفص بن الوليد» حُكم «مِصر» المرة الثانية بعد «حنظلة بن صفوان» الذى تولَّى حكم أفريقية (المغرب) ووضع «حفصـًا» على حكم «مِصر»، مُقرًّا الخليفة «هشام» إياه حاكمـًا عليها فى عام ١٢٤هـ، وجعله على الصلاة والخَراج معـًا. وقد تعرضت «مِصر» فى أيامه إلى قحط. وبعد زمن قصير، ورد إلى «حَفص» خبر موت الخليفة «هشام»، وتولِّى «الوليد بن يزيد» أمور الخلافة من بعده، وإبعاده عن الخَراج، واضعـًا عليه «عيسى بن أبى عطاء».

خرج «حَفص» قاصدًا «الشام» إلى الخليفة «الوليد»، تاركـًا شُؤون حكم البلاد إلى «عُقبة بن نُعيم الرُّعَينى». وعندما وصل إلى «دمَِشق»، وجد أن الخليفة «الوليد» قد خُلع ثم قُتل! وأن شُؤون الخلافة قد تولاها «يزيد بن الوليد بن عبدالملك»، الذى قد أمر «حَفص» بالعودة إلى «مِصر» وحُكمها. إلا أن الخليفة تُوُفِّى، وتولَّى أمور الخلافة من بعده ابنه «إبراهيم»، ثم «مروان بن مُحمد» الذى فى أيام خلافته طلب إليه «حَفص» إعفاءه من حكم «مصر»، فقبِل ووضع بدلاً منه «حسّان بن عتاهية»؛ وهٰكذا كانت مدة حكم «حَفص» على «مِصر» ثلاث سنوات تقريبـًا.

الخليفة «الوليد بن يزيد» (١٢٥-١٢٦هـ/٧٤٣-٧٤٤م)

بُويِع بالخلافة بعد موت «هشام»، فأبعد «حَفص» عن خَراج «مصر» مع أنه كان مشهورًا بعدالته واستقامته ونزاهته، وعهد بالولاية إلى «عيسى بن أبى عطاء» الذى كان ظالمـًا بعيدًا عن العدل والإنصاف وأساء معاملة المِصريِّين. وقد ثار أهل «الشام» وسائر البُلدان على الخليفة «الوليد» لسوء تدبيره وصدور الكثير من الأمور القبيحة منه، حتى إن المؤرخ «ابن تغرى» قال عنه: «... وفيها تُوفى الخليفة «الوليد بن يزيد بن عبدالملك بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية» (الهاشمىّ) الأُمَوىّ الدمشقىّ المعروف بـ«الفاسق»...»؛ فقد قُتل بعد مبايعته بقرابة عام وثلاثة أشهر. وقد بدأ الضَّعف يدُب فى الدولة الأُمَوية بعد ازدياد الخلافات والانقسامات فى عهده.

الخليفة «يزيد بن الوليد» (١٢٦هـ/٧٤٤م)

عُرف باسم «يزيد الناقص»! لأنه أنقص عطاء الجند بعد ولايته. وقد بُويع بالخلافة بعد قتل «الوليد»، وامتلأت مدة خلافته بالاضطرابات الشديدة. وقد أصيب بالطاعون ومات بعد أن أعاد «حَفص» إلى ولاية «مِصر». وبقِيَ فى الخلافة خمسة أشهر.

وفى تلك المدة، جلس على الكرسىّ المَرقسى البابا «قُزْمان الأول»، ثم خلفه البابا «ثيؤذوروس».

البابا «قُزْمان الأول»

البطريرك الرابع والأربعون

جلس على الكرسىّ المَرقسىّ بعد نياحة البابا «ألكسندروس» فى عهد الخليفة «هشام بن عبدالملك». وُلد فى بلدة «بناموسير» (أو «بناوبوصير») فى «المحلة الكبرى». ترهب فى دير «أبومقار» باسم «قُزْما»، وكان يحب حياة الوحدة والاختلاء. انتُخب بالإجماع، ورُسم بطريركـًا دون إرادته فى السادس والعشرين من مارس عام ٧٢٩م. ومنذ جُلوسه على الكرسىّ المرقسىّ لم يتوقف عن الصلاة إلى الله كى ما يُنَيِّح نفسه سريعـًا، إذ كان يرى فى مسؤولية البطريركية ثِقْلاً عظيمـًا، معتبرًا نفسه غير قادر على القيام بأعباء تلك المسؤولية وغير مستحق لتلك الكرامة؛ فقدت ذكرت «إيريس المِصرىّ» المؤرخة أن هٰذا البابا لم يجد نفسه جديرةً بهذه الكرامة العظمى التى أولاه إياها إكليروس (مُكَرَّسو) الكرازة المَرقسية وشعبها بنعمة الله.

أيضًا ما صادفه المَسيحيُّون من متاعب جمة جعلت نفس هٰذا البطريرك ملآنة بالأسى والحزن، بسبب ما كُتب إلى «حَيّان بن شُرَيح» عامل الخَراج فى «مِصر» حين طلب منه أن يجعل جزية موتى القبط على الأحياء منهم، وأيضـًا أضيفت إلى ذٰلك الجزية على القرى فكان على كل قرية مقدار من المال يجب دفعه بغض النظر عمن يموت من أهلها. وقد ذكر «إلياس الأيوبىّ» فى كتابه «مِصر الإسلامية» أنه إزاء شعور البابا «قزمان» بعدم استحقاقه، والأسى الموجود فى قلبه، إضافة إلى عدم قدرته على منع الجزية المفروضة والمبالغ فيها، تضرع إلى الله ـ تبارك اسمه ـ نهارًا وليلاً فى صلوات وطلبات أن ينقُله من هذا العالم، بدلاً من تضرعه لأجل أن يمنحه النعمة لتأدية واجباته الرعوية؛ والأمر العجيب أن الله ـ تبارك اسمه ـ استجاب لهذه الطلبة الغريبة فلم يلبث على الكرسىّ المَرقسىّ سوى خمسة عشَر شهرًا وانتقل فى الرابع والعشرين من يونيو عام ٧٣٠م ودُفن بالمَرقسية فى «الإسكندرية». ومرت أيام بابوية هٰذا الأب البطريرك كمرور السحاب العابر الذى يظهر فى الصيف منقشعـًا سريعـًا. وهٰكذا اضطُر الإكليروس والشعب إلى التشاور من جديد لاختيار أب بطريرك يخلُفه على الكرسىّ المَرقسيّ، فاختير البابا «ثيؤدوروس».

البابا «ثيؤدوروس»

البطريرك الخامس والأربعون

اختير ليكون بطريركـًا بعد نياحة البابا «قُزْمان الأول»، فى عهد خلافة «هشام بن عبدالملك». كان أحد رهبان «دير طمنوه» (أو «طنبوره») فى «مريوط». تنبأ عن جلوسه على كرسىّ «مار مرقس» وتوليه مسؤولية البطريركية أحدُ الآباء الرهبان القديسين يُدْعى «يُحَنِّس» (أو يؤَانِّس) كان «ثيؤدورس» تلميذًا له، فأخبره قائلاً: «اعلَم يا ابنى: أنه فى السنة التى يتنيَّح فيها «البابا ألكسندروس» أتنيح أنا معه، وأنت تجلس على كرسىّ الرسول الجليل «مار مرقس»، ولكن ليس بعد «البابا ألكسندروس»، وإنما بعد الذى يأتى من بعده»؛ وبالفعل جلس على الكرسىّ المَرقسىّ فى الخامس والعشرين من يونيو عام ٧٣٩م. وكان البابا «ثيؤدوروس» ذا وجه بشوش، ونفس صافية، لم يعرِفه الشعب إلا وديعـًا ذا قلب يفيض بالمحبة نحو الجميع؛ فانعكست هٰذه الفضائل جميعها على وجهه حتى تلألأ جبينه بنور عجيب، وأحبه الإكليروس والشعب حبـًّا جمـًّا.

ومع أن المتاعب والضيقات كانت لاتزال فى عهده، فإن الكنيسة كانت فى أيامه تنمو بلا مقاوم لها أو شقاق فيها. وقد ذكر المستشرق «جاستون فييت» فى كتابه «مختصر تاريخ مِصر» المدوَّن باللغة الفرنسية، أنه بعد سياسة التعسف والطغيان، دُهش الحكام أن القِبط مع الاستبداد الذى حل بهم لم يُنكروا دينهم، ولم يكُن من بينهم من حاول التهرب من الجزية بجحد مَسيحيته، وقد استُقدم ٥٠٠٠ عربىّ من قبيلة «القَيس» ليستقروا فى مِنطَقة «حوف» شمال شرقى «الفسطاط». والعجيب أن كل والٍ جديد كان يصطحب معه ما يقرب من ٦٠٠٠ جندىّ يستوطنون «مِصر» الرحيبة. وقد توهم السلطان أنه بعد استقدام هؤلاء أنه يستطيع أن يستمر فى سياسة الاستبداد دون معارضة، إلا أن طغيانه هذه المرة لم يستثِر غضب القِبط وحدهم، بل أثار غضب المسلمين أيضـًا فرفعوا شكواهم إلى الخليفة «هشام بن عبدالملك» لأنه كان ـ كما مر ـ عادلاً ومنصفـًا يعمل على راحة رعاياه من المسلمين وغير المسلمين، فتدخل لإعادة الاستقرار والسلام على ضفاف النيل. وقد شاءت العناية الإلهية أن يظل السلام حتى آخر أيام البابا «ثيؤدوروس»، فتفقَّد المَسيحيِّين وثبتهم على الإيمان الأُرثوذكسىّ، إلى أن تنيح فى الأول من فبراير عام ٧٤٢م بعد أن أقام على الكرسىّ البطريركىّ ما يقرب من إحدى عشْرة سنة ونصف السنة. وقد عاصر البابا «ثيؤدوروس» الخلفاء: «هشام بن عبدالملك»، و«الوليد بن يزيد»، و«يزيد بن الوليد»؛ و... وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى...!

* الأسقف العام رئيس المركز

الثقافىّ القبطىّ الاُرثوذكسىّ

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية