لا يتصور أصدقاء حسام أن الشىء الذى يحسدونه عليه، وهو إعجاب الفتيات به، هو أمر يثير انزعاجه إلى أقصى حد. وما كان حسام ليصبح محظوظا لو كان وغدا لا يبالى بمشاعر غيره، أما وهو يمتلك ضميرا مرهفا ورحمة فطرية تجعله ينفر من إيذاء غيره، فقد تحول هوس النساء به إلى أمر محطم للأعصاب. صحيح أن الانجذاب الفطرى للجنس الآخر موجود، لكن لم يبلغ إلى حد أن يهب قلبه بالكامل لامرأة بالذات. ولم يكن ينوى مثلا أن يضرب عن الزواج، بل كان فى أعماقه يتوق لدفء أسرة، لكنه قدّر أن الأوان لم يحن بعد، وأن يقطع درجات فى سلم النجاح فذلك يجعله يبدأ بداية سليمة.
■ ■ ■
فى إحدى عمارات نصف البلد التى تعود لحقبة الأربعينيات كان سكنه حينما شاهد السيدة «بهيرة» لأول مرة. تنحى لها بلطف لتدلف إلى مدخل العمارة. سيدة فى أوائل السبعينيات يتوجها شعرها الأبيض الذى يتوهج كنهار لا ينذر بالنهاية. وفكر وهو يصعد الدرج أن هذه العمارة لها عبق من التاريخ يندر وجوده فى بنايات هذه الأيام. حتى المصعد عبارة عن كابينة خشبية مزدوجة الأبواب بالغة الأناقة. وبلطف مطبوع فتح باب المصعد وانتظر فى صبر. شكرته بأناقة. وغادرت بهيرة المصعد فى الطابق الثالث، تاركة نفحة من عطر أنيق، ووجد حسام ما زال مبتسما وهو يواصل الصعود، وقال لنفسه إنه يندر فى عصر الزحام أن تجد سيدة بهذا اللطف والكبرياء.
■ ■ ■
جمعت المصادفة بين حسام وبهيرة فى الأيام التالية. وكانا يتبادلان الابتسام وكلاهما يعلم بالأثر الطيب الذى يتركه الآخر فى نفس صاحبه. وبسرعة انعقدت بينهما صداقة لم يكن حسام يحلم بخير منها. فأخيرا يجد سيدة من الجنس الآخر الذى طالما تجنبه يستحيل أن تفكر فيه، إلا كما تفكر الأم فى ابنها. عن طيب خاطر كان يقضى لها طلباتها الصغيرة فى نهاية اليوم. ويمكث معها قليلا مستمتعا بصحبتها الطيبة. كانت ليدى بمعنى الكلمة ما زالت تحتفظ بوهج من حسن قديم. وحتى الآن يشوب لفتاتها كبرياء لطيف وأناقة غير مصطنعة.
كان ذلك حاله عندما تركته لإحضار مشروب الضيافة فمضى يتجول فى الصالة العتيقة. وتجمد بصره عند صورة قديمة لحسناء يصعب وصف جمالها، تبتسم فى لطف وكبرياء.
رباه! إنها هي! أجمل من شاهدت عيناه فى حياته. ليس الجمال فحسب، ولا النور المنبعث من ملامحها، ولا حتى ابتسامتها المنطوية على حسن خفى، وإنما النظرة العميقة الأخاذة وكأنها تعرف أنها بعد خمسين عاما من التقاطها سوف يسبر أغوار هذه النظرة.
جاءت تحمل المشروب كالمعتاد. لكنه كان قد تغير. وراح يتخيل لو كان معاصرا لها. هذه هى المرأة التى لم يكن يتردد أن يهبها حياته يفصله عنها خمسون عاما.
■ ■ ■
غلبه النوم وهو راقد على الأريكة. ثم استيقظ على طرق خافت. فتح الباب مترنحا، فلم يصدق ما رآه.
بهيرة، كانت أمامه بنفس الثوب الذى رآه فى الصور. حسناء فى الثانية والعشرين، وقد رفعت ذقنها بنفس اللطف والكبرياء. استدار الزمان وعاد القهقرى. وفى صمت تأبطت ذراعه ومضت إلى المصعد الذى مسته ريشة الساحر فعاد يومض بالجدة والبهاء. حتى البناية نفسها أُعيد طلاؤها. ولولا أن حسام كان مشغولا بها، مأخوذا بالكامل فى عالمها، للاحظ أن السيارات جميعا التى تسير فى الشوارع المغسولة تعود كلها إلى حقبة الخمسينيات.