تلقيت هذه الرسالة الحزينة من القارئة «أميمة رمضان صالح».
«لأول مرة منذ ستة أشهر تنتبه لبقايا هذه «الشريطة» المعلقة على جانب السلم وهى تصعد درجاته فى طريقها لشقتها. مزيج من مشاعر متناقضة انتابتها فى هذه اللحظة. تذكرت البالونات البيضاء والوردية لتزيين سلم المنزل يوم خطبتها، وكيف عُقدت البالونات بهذه الشريطة الوردية.
عادت أدراجها وأمسكت بطرفها برفق، وارتسمت على شفتيها ابتسامة حزن. كيف صمدت «الشريطة» طوال هذه المدة رغم انتهاء الحفل والبالونات بل والخطبة نفسها..
لكنهم يقولون إن لكل شىء لغة حتى الجماد! وما عليك سوى أن تصغى جيداً لهذه الهمسات التى تلامس روحك. وهذه «الشريطة» تتشابه مع الشريط الوردى الخاص بدعم مريضات سرطان الثدى لتهمس لهن: «أنت جميلة».
دمعت عيناها وهى تسترجع أول مقابلة مع طبيب الأشعة الطاعن فى السن بملامحه الجادة وشعر رأسه الأبيض، ولم تكن قد تجاوزت الحادية والعشرين وهو يتمتم يخبرها أنها ستخضع لعمليتين جراحيتين منفصلتين فى تخصصين مختلفين.
إحداهما كانت لإزالة انسداد بين الكلية والحالب، والأخرى لإزالة ورم ليفى حميد خارج الرحم. وبعد أن أنهت الجراحات والفحوصات أخبروها بأنها شُفيت تماماً. لا مزيد من المتابعات الطبية. فقط هناك هذه الندوب الجراحية التى ضايقتها كأى أنثى صغيرة فى مقتبل عمرها لكنها تغلبت عليها، وقررت أن تعود لحياتها. وبتوفيق من الله استطاعت تحقيق إنجازات وظيفية ودراسية.
كان ما يكدّر عليها صفوها دائماً هو إصرار بعض الصديقات على التعامل معها أنها مريضة رغم الشفاء. وبعد جهود نفسية استطاعت هدم هذا الحاجز ونسيت تماماً أنها مرضت فى يوم ما.
وتمر الأيام ثم تلتقى بفارسها بعد خمس سنوات على شفائها ويقرران الارتباط. وشرعا يحلمان سوياً ويخططان لمستقبلهما. أصرت على أن تفعل كل التحضيرات بنفسها لتفاجئه بأجمل حفل وقد كان. لم ترَ انسجاماً ولا وداً بين أسرتين كالذى كان بينهما.
بعد الخطبة بفترة قصيرة آثرت إخباره بتاريخها الطبى ولم تدرِ لماذا شعرت بالرغبة فى ذلك طالما أنها شُفيت! فقط استجمعت شجاعتها وأخبرته ببساطة أن ما أجرته من عمليات جراحية لن يؤثر على فرصتها فى الإنجاب.
لا تدرى لماذا اختنق صوتها بالبكاء وهى تروى له ما حدث. ربما لأنها المرة الأولى التى تتحدث عما عانته بمشاعر حقيقية بعد أن كانت تتصنع الابتسام أمام والديها وإخوتها لتخبرهم بأن كل شىء على ما يرام. كانت تود إخباره بأنها التقت بالرفيق الذى ستتكئ عليه وتتقوى به على مصائب الزمان. فاجأها رده الغاضب عندما اتهمها بالغش لأنها لم تخبره منذ أول مرة التقيا لكى يقرر هل سيكمل معها أم لا! ثم انتهت الخطبة بعد أيام برغبة الطرفين.
كان انفصالاً هادئاً لكنه ولّد داخلها بحراً هائجاً من المشاعر المتضاربة والخوف. لم تكن تتخيل أنها تم تصنيفها، رغم كل نجاح أنجزته، بأنها مختلفة عن سائر الفتيات لأنها مرضت قبل ذلك، وأنه كان ينبغى عليها الاعتراف بهذا فى بداية أى تعارف وكأنه خطيئة! ثقافة وطن غير عادلة تطلب الكمال للفتاة دوماً كأنما حُرّم عليها المرض قبل الزواج!.
جالت هذه الذكريات بخاطرها وهى ترمق الشريطة وردية اللون. وكأنها أبت إلا أن تصمد مكانها لتهمس لها كلما رأتها فى صعودها وهبوطها: «أنت جميلة»!.
ودّعت ملمس الشريطة الحنون بدمعة ساخنة لامست ثغرها المبتسم ثم واصلت الصعود.