العُدوانية غريزة أساسية عند الإنسان -كما يرى فرويد- الذي يعتبرها ميلًا فطريًا غير مكتسب.
فالإنسان – وفقًا لهذه النظرية- عدو فطري لأخيه الإنسان، ورسالة المجتمع هي تهذيب هذه الدوافع وتشذيبها، وهو الرأي الذي هاجمه البعض خشية أن يُتخذ ذريعة لكل فعل عدواني. إلا أن التيار الأكثر تأثيرًا في علم النفس -بعد ذلك- لم يبتعد كثيرًا عن نظرية فرويد، فقد رأى أن «العدوان استراتيجية يتبعها كثير من الكائنات، ومنها الإنسان»، وأن «أي تفسير للعدوان يجب أن يأخذ في اعتباره كلًّا من العوامل البيولوجية والعوامل المرتبطة بالمواقف الخارجية في البيئة»؛ أي أن جزءا منه له علاقة بالعامل البيولوجي الذي يمكن ببساطة وصفه بالغريزة. وهو تلخيص لنظرية فرويد التي ترى أن «السلوك البشري هو نتيجة للصراع بين هاتين الغريزتين أو التعاون بينهما؛ فغريزة الحياة تنزع إلى البناء، أما غريزة العدوان فتنزع إلى التدمير والهدم، ووظيفة المجتمع هو التغلب على السلوك المدمر وتقديم السلوك الذي يبني ويهذب».
وإذا كان العدوان هو غريزة حيوانية، أي لدى كل الكائنات، فإن الإنسان وحده اُختص بما يقابل تلك الغريزة، وهي الظاهرة الأخلاقية التي يصفها العلماء بالظاهرة الإنسانية -أي تخص الإنسان وحده.
فإذا كان الحيوان غير مسؤول عن سلوكه، ولا يستجيب لمصيبة الآخر، وإنما للمنبِّه الذي يشعر بتأثيره، فيفترض في الإنسان أن يكون عكس ذلك، أي أنه مسؤول عن سلوكه ويستجيب لمصائب الآخرين.
وإذا كانت بعض سلوكيات الحيوان تبدو أخلاقية في نتائجها– وفقًا للمنطق الإنساني- فإنه لا يمكننا أن نطلق عليها أعمالًا أخلاقية، لأن الفارق الجوهري ليس في نتيجة الفعل، إنما في أسسه ودوافعه الأخلاقية.
والأخلاق تعني «تلك الأفعال التي تنظم الغريزة بهدف الارتقاء عنها»، وهي «مجموع القواعد المعيارية والمُثل العليا التي لها قيمة بحيث تحدد -بشكل إيجابي- السلوك الإنساني وتوجهه، كما تحدد علاقات الناس فيما بينهم».
اجتهد العلماء كثيرًا في دراسة الأخلاق كظاهرة، ما مصدرها؟ بمعنى ما الذي يجعل المرء يقاوم قيمة سلبية عدوانية لصالح قيمة أخلاقية إيجابية بعينها؟ وما الذي يحققه بتلك المقاومة؟
وإذا كان العدوان غريزة من غرائز البقاء التي تساعد الإنسان في الحصول على طعامه أو توفير شرط الأمان أو الحصول على متطلباته المادية والمعنوية الأخرى، فما المنافع التي يحصل الإنسان عليها مقابل تخليه عن تلك القيم السلبية لصالح قيم إيجابية بعينها؛ أي الأخلاق؟
استخلص العلماء أن السلوك الأخلاقي «فعل مقاومة» يتميز «بسلطة الإلزام» أي أنه يُلزم صاحبه بتصرف محدد يتسق وطبيعة القيمة الأخلاقية التي تقاوم النزعة العدوانية بداخله، ومن الطبيعي أن يكون السؤال هنا: من أين تنبع تلك السلطة؟
هل هي سلطة ذاتية، تنبع من الذات الفردية -أي ضمير الإنسان- مقابل ما يتحقق له من سعادة وشعور بالرضا وتحقق لذاته؟
أم من ضمير المجتمع المحيط، مقابل ما يحظى به من رضا وأمان وتجانس مجتمعي، أو من تجنب مغبة فساد صورته لدى المحيطين به؟
الصورة المثالية الصافية يمكن إيجازها في أن يقاوم الإنسان غرائزه العدوانية متمسكًا بالأخلاق بدافع ذاتي مرتبط بتصوره الشخصي عن نفسه كإنسان، منطلقًا من حسّ تعاطفٍ تجاه الآخرين ممن يرتبط بهم فعلُ الأخلاق كفعل مقاومة إيجابي.
الصورة المثالية الأخرى– ولكن أقل صفاء من سابقتها- هي أن يقاوم الإنسان غرائزه العدوانية بدافع ذاتي كذلك؛ ولكن طمعًا في الشعور بالسعادة التي يحصل عليها من وراء ذلك؛ من قبيل تقدير المجتمع أو غير ذلك من منافع معنوية.
الصورة الثالثة -وهي أقل صفاء- أن يُضطر الإنسان إلى الإلتزام بالأخلاق باعتبارها سُلطة من دون أن يُكنّ لها أي تقدير كقيمة، أو ينطلق إليها بدافع تعاطف مع الأطراف الأخرى ممن ترتبط بهم الأخلاق كفعل. إنما يقوم بها درءًا لخطورة نبذه مجتمعيًا -وفقًا للأعراف- أو خوفًا من إيقاع العقوبة به -وفقًا للقوانين.
ولأن الصور المثالية هي الأندر، والصور الأقل صفاء هي الأغلب الأعم؛ كان على المجتمعات أن تُحوّل مجموعة القواعد الأخلاقية إلى قوانين وتضع لمخترقها العقوبات والجزاءات اللازمة لفرضها عليه كسلطة خارجية، من دون التقليل من شأن من يلتزمون بها كسلطة ذاتية في المقام الأول. ومن هنا تعددت الصور التنظيمية للمجتمعات على مر العصور.
في الصورتين المثاليتين لعلاقة الإنسان بالأخلاق، تبدو الأخلاق جزءًا مكملًا لتصور كلي مثالي للإنسان عن ذاته، يحقق من خلاله التزامه بها رضاه عن نفسه أولًا ويُشبع كذلك مشاعر الرحمة والتعاطف مع الآخرين بداخله، كما يمكنه أن يسعد بتحقيق قدر من الرضا وسط محيطه كنتيجة ثانوية.
بينما في الصورة الثالثة تبدو الأخلاق مجرد سلع تبادلية في تعاقد طرفه الآخر سلطة ما، تمتلك نفوذًا لا يمكن للمرء تجاوزه من دون تحقيق اشتراطاتها، لذا فإنه يخضع بشكل قسري لهذا النفوذ وينزل على رغبتها في تحقيق تلك الاشتراطات، وهنا تتحول القواعد الأخلاقية إلى سلع يبادلها الإنسان مقابل رضا هذه السلطة خوفًا أو طمعًا أو كلاهما معًا.
تتفاوت أشكال السلطة التي يمكن أن تشكل الطرف الآخر من التعاقد، وهي ليست بالضرورة سلطة شريرة، أو ليس الشر أحد اشتراطات وجودها، إنما شرطها الرئيس أن تمتلك المقدرة على إنزال العقاب – أو التهديد به، ومنح الثواب – أو الإيهام به، وترتبط تلك المقدرة طرديًا بمستويات التأثير التي يتاح للسلطة أن تمارسها على الأفراد لإلزامهم باشتراطاتها التعاقدية.
أول مستويات هذه السلطة هو المجتمع بالمعنى الضيق، أي المحيط بالفرد؛ الأسرة، والمعارف والأصدقاء والجيران. . .، ثم تتسع الدائرة لتشمل المجتمع كله.
داخل هذا المستوى يظل الفرد حرًّا؛ بمعنى (قادر إذا أراد ورغب) في التمرد على الشروط التعاقدية لمجتمعه طالما تعلَّق الأمر بشؤونه الخاصة ومساحة حريته الشخصية. ولكن تتقلص مساحة هذه الحرية كلما تعلق الأمر بالآخرين فلا يعود متروكًا لرغبته وإرادته إنما تحكمه عادات وتقاليد وممارسات عرفية تستدعي عقوبات -عرفية كذلك- كفيلة بردع الأفراد عن تجاوز الاشتراطات التعاقدية (أنت حر مثلًا في أن تقول –على خلاف الواقع- إنك تمتلك الكثير من المال، حتى لو اعتبر الناس ذلك كذبًا فلا حق لأحد عليك، ولكن عندما تقول الأمر نفسه عن شخص آخر فقد يختلف الأمر ويستدعي عقوبة المجتمع خاصة إذا أوقع كلامك هذا ضررًا بشخص آخر، تتعدد العقوبات المجتمعية وتتراوح شدتها ابتداءً من الإزدراء، وتتصاعد في إلى جلسات عرفية يتم الاتفاق فيها على نوع الجزاء المناسب لتعويض المتضرر وردع بقية أفراد المجتمع.. . إلخ).
المستوى الثاني من مستويات السلطة هو مجموعة القوانين الرسمية التي يسنها المشرع ويحكم بها القضاء وتطبقها السلطة التنفيذية، هذه القوانين قامت بتحويل منظومة الأخلاق – أي القواعد المعيارية للمجتمع- إلى قوانين وحدّدت لمن يخالفها الجزاء والعقوبة المناسبين وفوضت في تنفيذها جهات بعينها، وفي الحالتين فإن سلطة الأخلاق أصبحت سلطة خارجية موضوعية جاهزة لردع من لا تردعه سلطته الذاتية.
مستويا السلطة السابقان (المجتمع والدولة) يشتركان في كونهما يحدّدان الجزاءات المناسبة للمسئ أو المقصر الذي يُخلّ بقواعد الأخلاق بما يعود بالضرر على آخرين – وأحيانًا على نفسه، لكنهما لم يضعا قائمة بالمقابل المادي أو المعنوي الذي يحصل عليه الملتزم بقواعد الأخلاق، وكأنهما بذلك اعتبرا أن الأصل في الإنسان أن يلتزم (مثلما تفترض الصورتان المثاليتان الصافية والأقل صفاء، المشار إليهما من قبل)، وبذلك فإن المجتمع والدولة –كشكلين من أشكال السلطة- لم يقوما بتشيئ الأخلاق إلى الحد الذي يمكن أن نصفها فيه بالسلع التبادلية.
بينما يتحقق ذلك في المستوى الثالث من مستويات السلطة، وهي السلطة الدينية التي تتحول معها الأخلاق إلى سلع تبادلية: قَدِّم سلعتك تحصل على أجرك، وإلا فإنك لن تخسرَ الأجرَ فحسب، بل ستنال عقوبة.
الشرط السابق–إن خلصناه من التباسه الروحي والعقدي- هو شرط استبدادي بحت، لأنه نوع من الإجبار على ممارسة أفعال بعينها يرى فيها الطرف الأقوى صالحَه، ليس هذا فحسب، بل ويفترض أن فيها صالحَ الطرف الآخر – شاء أم أبى. وعليه أن يُطيع بالطريقة والآلية والمواعيد المحددة، لأن عدم الطاعة مقرون بالعقاب.
إنه فارق جوهري تتغير معه جذريًا علاقة الإنسان والأخلاق، يضاف إلى الدين -كمستوى من مستويات السلطة- بعدٌ آخر مهم، يتجلى في قدرته على الوعد بما لا تُمكن معاينته، والوعيد بما لا يمكن اختباره، وهو ما لا يتحقق لغيره من سلطات، مما يفتح للسلطة الدينية مستويات التأثير إلى أقصى مدى ممكن. وتتشيأ معها منظومة الأخلاق نهائيًا فتصبح مجرد سلع لا قيمة لها في ذاتها أو في تأثيرها في الآخرين، إنما شرطُها الوحيد أن تكون صالحة للتبادل ضمن الشرط التعاقدي مع السلطة الدينية مقابل الثواب والجزاء بالبركة وسعة الرزق والصحة والذرية وغيرها في الحياة الدنيا، والعديد من أشكال المتعة والثواب والنعيم في الحياة الأخرى، أو مقابل دفع البلاء والإبتلاء في الدنيا واتقاء النار والعذاب في الآخرة. فتنحسر عن الإنسان بذلك صفته التعاقدية ويصبح طرفًا في عقد عبودية، ويصبح قبوله بتلك الصفة -من الأساس- أحد أهم شروط التعاقد.
[email protected]