x

أحمد الشهاوي أنتَ مُشتبَه بك أحمد الشهاوي السبت 14-11-2015 21:23


من حقك أن تشُكَّ فى أى إنسانٍ تلتقيه، خُصوصًا إذا اشتبهتَ فى أمرٍ ما بينكما، أو التبسَ عليك شىء لم تستطع إدراكه بشكلٍ جيد، وصار هذا الإنسان لديك مُشتبَهًا به، أى بلغة النحو مفعُولا به، وكونه صار هكذا لا يجوز للمُشْتَبِهِ سواء كان شخصًا عاديًّا أو من البوليس أن يمارس سلطته الشرطية خارج نطاق القانون، ويترك للإجراءات القضائية أن تأخذ مراحلها المتعارف عليها.

و«الشّبهة ما يشبه الثّابت وليس بثابتٍ، ولابدّ من الظنّ لتحقّق الاشتباه»، كما يقول الإمام الكمال بن الهمام‏، ومن ثم لا يجوز للمشتبِه من البوليس أن يخطفه أو يضعه فى السجن لأيامٍ أو شهورٍ أو ربما سنوات دون مُحاكمة عادلة، ولا يجوز أن يجهل أهله مكانه، كى يساعدوه فى محنته، ويتصرفوا للدفاع عنه، ورفع الاشتباه.

فكم من مُشتَبهٍ بهم مُلقوْن فى السجون دون مساءلات قانونية أو محاكمات قضائية عادلة، وقد وسعت دائرة الاشتباه كثيرًا خُصوصًا فى الريف، إذ صار كل من لديه خلاف مع شخصٍ آخر يتقدم للإبلاغ عنه، ثم يُلقَى القبض على من طالته الوشاية، وقد يبقى شهورًا أو على الأقل سنة أو أكثر، وهو لا يعرف لماذا قُبض عليه، ولماذا أُطلق سراحه.

وحتى الآن لا يفهم الكثيرون ممن بيدهم الأمر مُصطلح «المُشْتبَه به، أو المتَّهم»، ومن ثم بمجرد القبض عليه من بيته، باعتباره مُجرمًا عتيدًا، ارتكب من الجرائم ما يستوجب التنكيل به، حيث يلاقى أصناف الإهانة والتعذيب ضربًا وسحلا ورفسًا قبل أن يُعرض على النيابة (هذا إذا عُرِض)، وعادة ما يكون ذلك فى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، مما يُسبِّب رُعبًا لأهله وأولاده، خُصُوصًا إذا كانوا أطفالا، ويظل هذا المشهد حاضرًا بشدة فى أذهانهم، وهو الأمر الذى يُسبِّب توترًا فى العلاقة بينهم وبين الوطن فيما بعد، ليس من اليسير محوه مهما مرت السنون.

وهذا معناه التعسُّف، وتجاهل القانون، والتغاضى عن تطبيقه رُوحًا أو حرفًا، وإنكار الحقوق المشروعة للمُتَّهم، الذى هو فى الأساس له حقوق منحها له الله، ونظَّمتها له الدساتير، وكفلتها له الدولة التى ينتمى إليها.

فالإبلاغ عن شخصٍ لا يعنى أبدًا أنه مُجرم يستوجب العقوبة، لأنه مُجرَّد بلاغٍ من شخصٍ ما عابرٍ، قد يكون كاذبًا، وقد تكون المسألة وشايةً أو تلفيقًا أو اختصامًا، أو حسدًا وحقدًا وكيدًا، وعادةً كما تقول القاعدة القانونية إن «الشك يُفسَّر لصالح المتهم».

والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: «ادْرَأوا الحُدودَ عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ فى العفو خير من أن يخطئ فى العقوبة». رواه الترمذى مرفوعًا وموقوفًا.

‏وقال عمر بن الخطّاب: «لأن أعطّل الحدود بالشّبهات أحبّ إلىّ من أن أقيمها بالشّبهات‏».‏ وقال الكاسانى:‏ «إنّ الحدّ عقوبةٌ متكاملةٌ فيستدعى جنايةً متكاملةً، فإذا كانت هناك شبهةٌ كانت الجناية غير متكاملة».‏

ولأنَّ الشك والظن سببان من أسباب الاشتباه، حيث الشك يخالف اليقين، وهو تردُّد بين أمرين دون ترجيح أحدهما على الآخر، لكن ولى الأمر عندنا دائما ما يرجِّحُ الشك على اليقين، لأنه لا يريد أن يكون مُخطئًا أمام نفسه أولًا، والذين يعملون معه ثانيًا، خُصوصًا إذا كان يستقى معلوماته من المخبرين، وعادة ما يكون هناك اختلاف وتناقض بين المخبرين، ولذا لا يمكن الاعتماد عليهم بالكلية، لأنهم يفتقدون الكثير من السمات التى تؤهلهم لهذا الأمر، ومنها الصدق والأمانة والموضوعية والحيادية، وقبل كل ذلك الثقافة ورجاحة العقل والذكاء.

ومن المعلوم أن الاشتباه لايُزَال إلا عن طريق الأخذ بالقرائن، التى عادةً ما تكون قطعية، و«تُرجِّح أحد الجوانب عند الاشتباه»، إذْ هى أماراتٌ بالغة اليقين، والتحرِّى الدقيق لأنه حجة حال الاشتباه وفقدان الأدلة.

وما يلفت الانتباه- حقيقةً- هو أن توسيع دائرة الاشتباه فى الانتماء السياسى يزيد من القطيعة النفسية والسياسية مع الوطن، بل يجعل قطاعًا من المصريين- ليس صغيرًا بطبيعة الحال- فى وضع خصومة دائمة، الأمر الذى يُهدِّد المجتمع، ويخلُق حالةً من الريبة الدائمة، خُصُوصًا بعد أن صار التقييم يتم على أساس الانتماء السياسى، حيث زاد الاعتقال العشوائى، والاختفاء القسرى المبنى على الوشايات، لدرجة أن هناك تقديرات دولية تشير إلى أن عدد المعتقلين بسبب انتماءاتهم السياسية قد وصل إلى ما يزيد على أربعين ألفًا، مع أنه ليس من سلطة أحد التدخُّل بالاعتراض على ميول أحد السياسية، أيًّا كانت هذه السلطة، إذْ كفل القانون لكل شخص الحق فى ممارسة السياسة كيفما يشاء، ولكنَّ حركة الاعتقالات تتم خارج إطار القانون، وهذا الاعتراض يُعدُّ انتهاكًا وتعسُّفًا، حيثُ إنَّ القانون المصرى لا يعطى الحقَّ لأى ضابط مهما تكُن رتبته أن يفتِّش هاتفًا أو حقيبة لمواطن دون الحصول على إذنٍ من النيابة، فما بالك بحالات الاعتقال والاختفاء والخطف.

وما يدهشنى أننى أعرف شخصًا من قريتى، وهو جار لأسرتى، تخطَّى الستين من عمره، ظل مقبوضًا عليه لتسعة أشهر دون جُرم ارتكبه، ودون محاكمة أيضاً، وفى النهاية عاد إلى بيته، لا يعرف لماذا قُبض عليه، ولا لماذا أُفرِج عنه، ومنذ عودته وهو نائم فى الاكتئاب والصدمة، لا يخرج من بيته نهائيا، وعرفتُ أن تهمته كانت الانتماء إلى الإخوان، رغم أننى أعرف أنه لا يواظب على أداء الصلوات، ولا يعرف من هم الإخوان من الأساس، ولم يضبطه أحد متلبسًا بقراءة كتاب فى أى فرع من فروع المعرفة.

فعلينا- أولاً- ألا نشُك فى صحة الناس وسلامة أرواحهم ونواياهم، وإلا صار البلد سجنًا كبيرًا، كل جار يشتبه فى جاره، ويشك فيه، حيث يرى الرُّمان زيتونًا والزيتون رُمانًا، لأنه ببساطةٍ لا يعرف الفرق بين التشابُه والاشتباه.

ويكثرُ الاشتباه عندما يقلُّ التحرى، وينعدم الفحص والاجتهاد، وتغيب العلامات والأمارات على المُشتَبِه، الذى من المفترض أنه ضابط، أى يعرف ويحكم، إذ ليست المسألة خبط عشواء، وعليه ألا يثق ثقةً عمياء فيمن يتعاونون معه من الناس، الذين صاروا مُخبرين وجواسيس على بعضهم البعض، وهو- عندى- من أخطر الأمور التى وصلت إليها حالنا، وتتضاءل الدقة، ويكثر الانتقام، ويتفشَّى الظلم، وعدم الاكتراث بحرية الفرد وإنسانيته وكرامته، وكذا غياب العقل الذى يزن الأمور بحكمة وحنكة.

والاشتباه- عمومًا- جهل ونقصان علم، وضياع اتضاح الدلالة، ومن القواعد الشرعية المرعية والمتبعة أنه ينبغى «العمل بالاحتياط عند الاشتباه، حرصًا على براءة الذمة من حق الله وحق عباده»، لأن الأصل فى الإنسان الحرية والبراءة وليس العكس، ومن المفترض فى القانون المصرى، والموافق للقاعدة الفقهية (والذى كثيراً ما يغيب فى حالات الاشتباه) أن «المتهم برىء حتى تثبت إدانته»، لكن قاعدة الهرم انقلبت فى كل شىء، فالمتهم يصبح مجرمًا، ويتم فضحه فى وسائل الإعلام، كما يتم سجنه دون تهمة محددة أو واضحة سوى أنه مشتبه به.

والاشتباه لا ينفع معه سوى التيقُّن التام القاطع، إذْ لا يصلح الشك فى أمورٍ كهذه تتعلق بمصير إنسانٍ وسُمعته، إذْ لا ينبغى رمى الناس بالتهم وهم أبرياء، والرسول يقول: «الَبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَر»، والعدالة مهمتها إثبات الحقيقة، ونفى الاشتباه أو التهمة عن المشتبه به، لكنَّ العدالة فى الواقع قد لا تعلم شيئًا عن المشتبه بهم، خُصوصًا الذين يُعتقلون أو يختفون قسريًّا، وهم عمليًّا مُختطفون فى بلدٍ من المفترض أنه كان أرضًا للحرية، وليس فيه مكانٌ للعبودية والقهر والاستبداد.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية