دائما ما يؤرقنى هاجس المُعادل البصرى لما أكتب، وأرى أن أى نص مطبوع، لابد أن يدعمه نظير تشكيلى جمالى يخفف من حدته إن كانت به حدة، أو يؤلق عذوبته إن بدت فيه عذوبة، وعندما انتهيت من كتابة المقال الرئيسى لهذه الصفحة ليُنشر فى الأسبوع الماضى، رحت أبحث عن هذا المُعادل الجمالى فى ساحات الفن التشكيلى التى صارت رحيبة بلا حدود. ولوقت طويل لم أعثر على ضالتى التى تناظر بتكوينها وألوانها ومحتواها الرسالة الأساسية للمقال الذى حمل العنوان نفسه « فداحة الاستباحة»، والذى كان ينطلق من ازدراء الاستباحة التى تعرض لها المصرى المحترم، والقيمة، الدكتور عمرو الشوبكى، ثم العودة إلى رصد ملامح الاستباحة فى سنواتنا القليلة الماضية وتقدير ردود الفعل عليها.
فِرق الاستباحة الثلاثة
فى عودتى لتعقب سِيَر الاستباحات الأخطر فى سنواتنا القليلة الماضية، رأيت أن ثورة 25 يناير المجيدة، فى جوهرها الذى كان نقيا بلا جدال، كانت صرخة كرامة، انفجارا فى وجه الإهانة التى مثلتها استباحة «شلة» محدودة من محاسيب ابن الرئيس لوطن وأمة، وأن ثورة 30 يونيو، أو الموجة الثانية لثورة 25 يناير، كانت انتفاضة كرامة أيضا، فى وجه إهانة جديدة مثلتها «شلة» بديلة أكثر توسعا وأثقل غلظة، من جماعة تصرفت أيضا وكأنها امتلكت البلاد والعباد وإن بتفويض سماوى هذه المرة، ولخمسمائة سنة قادمة. أما «شلة» الاستباحة الجديدة، التى طلعت علينا مؤخرا، والتى كان ما تعرض له الدكتور الشوبكى نموذجا فجا وفاجرا لها، فقد رأيتها الأعجب والأغرب بين الشلتين السابقتين، فهى ببذاءتها وتماديها فى ابتزاز الناس وتهديدهم، واستباحة كراماتهم، وحياتهم الشخصية، بينما تزعم احتكار الدفاع عن الحكم والتمثيل الأوحد للوطنية المصرية، إنما تسىء إلى الحكم وتبتذل الوطنية معا. وبرغم أننى أعتقد أن ذلك لن يؤدى إلى انفجار مشابه لانفجارى يناير ويونيو، لسبب أن الناس سئموا «الهوجة» التى تتحول إليها الحشود، والفوضى التى تتردى إليها الثورة، ليختطفها من يتيسر له الاختطاف. لم يعد الانفجار الشعبى العام واردا، وهو ما تشهد به شرارات احتجاج هنا وهناك، ما تلبث أن تنطفئ، ليس بسبب بطش الدولة، ولكن لإحساس صار دفينا فى صدور الناس، هو الابتعاد عن الوصول إلى حافة الحريق. لكن هذا لا يعنى أن استمرار استباحة الكرامة، سيظل بلا رد فعل فادح، ففداحة رد الفعل يمكن أن تتجلى فى أشكال مغايرة لما سبقها، وعالية التكلفة فى الوقت ذاته، على الأقل لجهة فت عضد الأمة، ونشر الإحباط والانصراف عن وحدة صفها فى وجه تهديدات داخلية وخارجية، وتحديات لعمليات التنمية التى يمثل فشلها أو عدم كفايتها فتح أوسع الأبواب لتدفق الفوضى. ومن ثم، وإذا كنا نرتجى خلاصا حقيقيا من هذه الحالة التى لا تصعد بأمة فى أمس الحاجة للنهوض، فلابد من كف تغول رموز الاستباحة المستجدة هذه، التى تستمد توحشها وتفحشها من دعم خفى ما، من جهات إما أنها لا تُحسن حساب العواقب، وهى مصيبة، أو أنها تتعمد خطأ الحساب، فالمصيبة أعظمُ.
«تآمر البهائم» الجميلة!
كان ذلك موجز محتوى المقالة التى سحبتها من النشر فى الأسبوع الماضى تحت العنوان الحالى نفسه «فداحة الاستباحة»، الذى أكرره الآن من جديد، وإن بمفهوم مختلف تماما، وسبب هذا التحول، أننى عندما أوشكت على القنوط فى العثور على مُعادل تشكيلى لما كتبته، وقعت فجأة على لوحة لافتة تحمل اسما غريبا هو «تآمر البهائم» Conspiration of the Beasts، لفنانة أمريكية غير معروفةـ لى على الأقل ـ اسمها «أوليفيا بيومونت»، فأطلقت صيحة من عثر على كنز غير متوقع، برغم أن اللوحة بدت غير مطابقة تماما لرسالة المقال، إلا لو كانت من طرف «بعيد المنال»، كما يُقال فى النقد الأدبى عن الاستعارة المركبة، ثم إن اللوحة كانت تحمل دلالات مختلفة تبعا لترجمة اسمها، فهى يمكن أن تكون «تآمر الحيوانات» أو «مؤامرة البهائم»، لكن العودة إلى تاريخ اللوحة تجعل للاسم معنى مختلفا كثيرا، يمكن أن يكون «اتفاق الحيوانات». وبضم تاريخ إبداع اللوحة، إلى فلسفة الفنانة التى أبدعتها، يتضح أن العمل ينطوى على أطياف من المعانى السامية عديدة، وأن مراميها أبعد ما تكون عن أى تآمر يوحى بالخسة، فالرسامة «أوليفيا بيومونت»، وهى شابة على قدر ملحوظ من اللطف والجمال، والموهبة العظيمة بالطبع، تعيش فى بلدة صغيرة فى أطراف كاليفورنيا، وهى تكتب وترسم قصصا خرافية للأطفال، وتنتهج أسلوبا فيه الكثير من الدقة الكلاسيكية والتمرد الحداثى، حيث تزخر اللوحة بالألوان والأشكال، مهتمة بالحياة والحيوية، مهما تسللت إليها الغرابة، أو اتُهمت بالتنافر قياسا على معايير لوحات عصر النهضة والحرفية الصارمة، كما أن فيها بذخا تجميليا وزخرفيا واضحا، يعكس الحب العميق لدى الفنان تجاه موضوع وشخوص لوحته مهما كانوا. الجديد هنا بالنسبة للفنانة الشابة العبقرية بيومونت، هو ولعها بالحيوانات كأبطال للوحاتها، مما يشى بحب عميق للحيوانات، والأكثر من الحب هو التعامل معهم ككائنات نظيرة للبشر، تفكر، وتحس، وتدبر، لديها عواطف ومشاعر، ومن ثم لا يجوز النظر إليها كمرتبة أدنى على سلم «التطور» كما يفهمه بفجاجة غير المؤمنين بنظرية الخلق الخاص، وغير المؤمنين بحقيقة أن هذه الكائنات، إن هى إلا أمم أمثالنا، وهو ما أثق فيه بشدة، روحيا وعقليا وعلميا فى آن، لهذا فرحت بالعثور على الفنانة ولوحاتها، ورحت أتعقب سيرتها ومسيرتها، فاكتشفت أنها جميلة الروح أيضا، متواضعة ولا تطنطن كثيرا، وتضع لوحاتها البديعة فى الصدارة لتتوارى هى فى صمت خلفها، أما لوحة «تآمر البهائم»، أو «تآمر الحيوانات»، فوراءها قصة تقدير وعمق لرواد الفن الكبار، إضافة للاحتفاء بكائنات اللوحة كمعادل بشرى، بل بشرى رفيع القيمة لديها، إذ أغدقت على صورهم مفردات الفخامة التجميلية، من حُلى نفيسة، وألوان متألقة، وثياب فاخرة الأناقة.
حيوانات أخرى خارج اللوحة
وراء إبداع لوحة «مؤامرة البهائم» أو «اتفاق الحيوانات» للفنانة بيومونت، لوحة تاريخية عريقة وحكاية من تراث الفن العالمى العالى، ففى عام 1659، فكر مجلس مدينة أمستردام فى تدشين «جاليرى» لعرض اللوحات الفنية ضمن فعاليات افتتاح قاعة المدينة حديثة البناء، بلوحة تذكارية لفنان عظيم، يُمجِّد شيئا من تاريخ الأمة الهولندية، ووقع الاختيار على الفنان الهولندى الكبير«رامبرانت»، واقترحوا عليه أن يسجل فى لوحته للحظة تاريخية تعود إلى عام 69 ميلادية، جمع فيها محارب هولندى نبيل المحتد يُدعى «جوليوس سيفيلوس» مجموعة من نبلاء المحاربين من قبيلة «باتافاس»، وتعاهدوا برفع السيوف أن يتحدوا لمواجهة الإمبراطورية الرومانية، تعبيرا عن «الفخار والاستقلال الوطنى»، وبالفعل رسم رامبرانت لوحته وأسماها «مؤامرة جوليوس سيفيلوس»، أو «مؤامرة باتافاس»، صادما أعضاء مجلس المدينة ليس فقط باسم اللوحة، بل بما يجهر به تشكيلها، فهى تصور جوليوس سيفيلوس قميئا وبعين فارغة المحجر، بينما المجتمعون حوله يبدون هائمين ومنفصلين عنه، ثم إن النور الذى كان ولع رامبرانت وهبة لوحاته، تحول فى هذه اللوحة إلى أداة فضحٍ ساطعٍ من قلب اللوحة لتهافت ملامح المجتمعين، بينما محيطها الملفوف بالظل يحتويهم كما لو كانوا أشباحا فى قبر أو مغارة. كان رامبرانت يعبر عن رأيه فى خفة وسطحية أعضاء المجلس المحلى، وحماقة تآمر أو اجتماع جوليوس سيفيلوس، فقد كانت باتافاس قبيلة مغمورة، قليلة العدد وقليلة القيمة، وكان زعم مواجهتها للامبراطورية الرومانية محض هراء تاريخى يقلل من حروب كبرى خاضها الهولنديون مجتمعين!.
أشياء قبيحة يمكن رسمها بجمال
رفض مجلس مدينة أمستردام لوحة رامبرانت، وكانت ضخمة بمقياس 5 أمتار طولا X 5 أمتار عرضا، فاضطر رامبرانت إلى تقسيمها إلى أربعة أجزاء وبيع أجزائها منفصلة، لأن مجلس المدينة قرر ألا يدفع له شيئا، وإن كانت الأمور تغيرت فى مجلس مدينة أمستردام فيما بعد، وظهر من أعضائه سياسيون مثقفون، انتصروا لرؤية رامبرانت فى إطار احترام «حرية الرأى الفنى». ثم جاءت الفنانة الأمريكية الشابة «أوليفيا بيومونت» بعد ذلك بأكثر من ثلاثة قرون، متقدمة بموهبتها الأصيلة، لتصنع نظيرا للوحة رامبرانت المغدورة، تُحيّى فيها ذكرى شجاعة الفنان وكبريائه الإبداعى، بلوحة استلهمت اسمها من اسم لوحة رامبرانت، ودعتها: «مؤامرة البهائم» وربما «مؤامرة الحيوانات»، وأعتقد أن دلالات المعنيين، فى الكلمة ذاتها، تتضمن النور والظل معا فى سعى الرسامة، فاللوحة تنطق بجمال وتجميل الحيوانات إلى حد إشعاعها بالطرافة والظُرف، ومن ثم هى تومئ إلى حيوانات أخرى خارج اللوحة التى ثأرت بها لرامبرانت من ضيق أفق وفجاجة رؤية أعضاء مجلس المدينة، وفى تعليق للفنانة على لوحتها تلك قالت: «إن عملى تعبير عن لحظة ملحمية أخرى تجمع بين الهمجية والبذخ والشجاعة الشرسة، إنها تكريم لرؤية رامبرانت عن قصة سُردت برداءة فى كل تفاصيلها وإسقاطاتها الخيلائية، فلوحة رامبرانت التى صدمت أعضاء مجلس المدينة بعين سيفيلوس فارغة المحجر، هى بالنسبة لى لحظة تقول إن الحقيقة تظل جميلة، وإن ثمة أشياء قبيحة يمكن رسمها بجمال، فالأشخاص المحيطون بسيفيلوس لا تنطق هيئاتهم بأى سمت للنبل، مما جعلنى ألتمس رجع صدى تلك اللوحة فى الحيوانات، ثم إن رامبرانت فعل ما كان يأتى به شكسبير دائما، إذ كان شكسبير يتمثل الشخصيات طبقا للشغف الفنى وروح العمل الإبداعى، لا تبعا للحَرفية التاريخية، لهذا استحضرت الحيوانات بكل ثرائها وأصالتها فى لوحتى».
الأفارقة البيض الجميلون
تأملت لوحة «تآمر البهائم طويلا»، وبرغم توصلى إلى قناعة أنها لا تُمثِّل التناظر المعبر عن رسالة ما كتبته من فضح للاستباحة وتسليط الضوء على فداحة مردودها، إلا أننى اكتفيت باعتبارها إضافة جمالية لصفحة مهمومة بمواجهة القبح، فهى وإن بدت منفصلة، إلا أنها تشكل إضافة تخفف من وجع القلب والعتامة اللذين تنثرهما همجية الاستباحة التى طفحت على وجه أيامنا، وطفح منها الكيل، وجعلنى أكتب نصا عنيفا. قلت لنفسى مبررا «ليواجه العنف العنف»، وأرسلت المقال عنيف الصياغة للنشر، لكننى بعد أن أرسلته، رحت أتيقن من دقة بعض المعلومات الخاصة بالصور لأصحح أى خطأ عند مراجعتى للبروفة، وقد استدرجنى هذا إلى قراءة المزيد عن رامبرانت، ومن رامبرانت وجدت نفسى أغوص فى المزيد من تاريخ هولندا، وطن رامبرانت، وهولنداــ ولندع السياسة جانبا الآن ــ حالة طالما أثارت شغفى برغم أننى لم أزرها فيما زرت من بلدان العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا. فى البداية كانت هولندا هى وطن فان جوخ، الفنان الذى سحرتنى لوحاته وأسرتنى سيرته، ثم كانت هولندا هى الوطن الأصلى للأفريكان، أو المتأفرقون الهولنديون الذين استوطنوا جنوب إفريقيا، وهم حكاية كبيرة فى ذلك البلد البديع، الذى صنع الأفريكان، أو الأفارقة البيض، الكثير من ملامح إبداعه الثقافى والعلمى والجمالى، وعندما تعرفت على نماذج منهم، كما على تاريخهم شديد التركيب فى هذا البلد، لم أعد أصنفهم كعنصر شر فى معادلة الفصل العنصرى «الأبارتهايد» فى ذلك البلد الإفريقى الكبير الجميل، الذى يوصف عن جدارة بأنه «العالم فى بلد واحد»، وقد كان الأفريكان هولنديو الجذور هم العنصر الأهم فى استحضار الكثير من ملامح العالم «المتقدم» إلى هذا البلد الذى كان بكرا عندما استوطنوه، كما أن غوصى فى قراءة تاريخ حرب «البوير»ـ التى تعنى الهولنديين ـ بين هؤلاء الأفريكان والإمبراطورية الاستعمارية البريطانية، جعلنى أخلص إلى أنهم كانوا فيها ضحايا شأنهم شأن سكان البلاد الأصليين السود، وكان الجانى الأكبر والأشمل هو:الإنجليز. فتش دائما عن الإنجليز!
هولندا فى المنصورة
شغفى بالحالة الهولندية إضافة لكل ما سبق، عززته عناصر جديدة تربط ما بين هولندا ومصر، بل بمدينة قلبى والنشأة: المنصورة. فهولندا كما مصر وبنجلاديش، هى ثالث بلدان «الأراضى المنخفضة» فى العالم التى يهددها ارتفاع مستوى مياه البحر الذى يُنذر به ذوبان ثلوج القطبين نتيجة الاحترار العالمى. وهى حكاية طويلة تستدعى وقفة تأمل وانبهار واستفادة إزاء ما يعده الهولنديون من إبداع وابتكار لمواجهة هذا السيناريو الكونى المشؤوم. والابتكار والإبداع هو حالة هولندية أصيلة ومستمرة، ولقد وصلت إلى المنصورة بعض قبساته متمثلة فى مبنى ومعنى مركز الكلى والمسالك البولية الذى قدم الهولنديون منحته صادقة غير مشروطة، بل قدموا أكثر مما وعدوا به، لاعتبارات حضارية إنسانية أبعد ما تكون عن الابتزاز السياسى، وهى قصة جميلة وجليلة آمل أن أصفو لها يوما لأسردها ضمن ما خصنى به أستاذى، ابن مصر البار الدكتور محمد غنيم، ففى هذا المبنى الذى صممه الهولنديون بتفهم عميق لمتطلبات المناخ والبيئة المصريين، إضافة للدقة البالغة والجمال حتى فى اختيار الألوان، وموقع النباتات والمسجد والنوافذ التى ترحب بالنور وتنحى صهد الشمس، هى قصة جميلة أطلعنى الدكتور غنيم على بعض أسرارها الآسرة التى عمقت شغفى بذلك البلد وأهله. هذه هى هولندا، باختصار، التى جعلنى الرجوع إلى سيرتها أتوقف مبهورا أمام لمحة بارقة نبهتنى إلى أن ما كتبته يمكن أن يُكتب بشكل آخر، أفضل، وأجمل!
خمسة ملايين لوحة ومليارات الزهور
بينما كنت أقرأ عن الفترة التى ظهر فيها رامبرانت مع عمالقة فن تشكيلى آخرين فى هولندا، اكتشفت أن هذه الفترة أمطر فيها الفن التشكيلى الهولندى خمسة ملايين من اللوحات ذات القيمة فى عقود قليلة، وهى نسبة خارقة مقارنة بعدد سكان هولندا آنذاك، الذين كانوا لا يتجاوزون المليون ونصف من البشر، فصارت هولندا، خاصة مدينة أمستردام، ليس فقط قبلة الرسم الخلاب فى العالم حينها، بل أكثر بلدان العالم التى يشغف أهلوها باللوحات لتجميل بيوتهم، حتى بيوت البسطاء البسيطة. كان فن الرسم هوسا هولنديا جماليا فريدا، سرعان ما استحضر إلى ذاكرتى هوسا جماليا آخر صار عنوانا على فترة تاريخية فى هولندا عرفت بـ «هوس الزنابق»، أو هوس أزهار التوليب، التى وصل بها هذا الهوس إلى حد أن صارت بُصيلة الزهرة المتميزة تباع بما يساوى وزنها ذهبا، لكن هذا الهوس الجمالى، أو حتى الشكلى، كانت تنمو وراءه وأمامه وعبره حالة هولندية عالية الهمة والجمال، تتعلق بالدأب الهولندى فى «تفريخ» زهور توليب جديدة، وإضافة أنواع وألوان من هذه الزهرة غير مسبوقة، تخلب الألباب وتفتح أهم وأوسع الأبواب: أبواب التنمية المستدامة عبر الزراعة فائقة النجاح التى جعلت من هولندا أحد بلدان العالم المتقدم حضاريا، وعلميا، وفى مقدمة الدول الأكثر إسعادا لساكنيها. دولة صعدت من منخفض العالم المغمور بالوحول، إلى قممه الحضارية والاقتصادية، وبماذا: بلوحة، وزهرة!
تفعيل الجمال
نعم بلوحة وزهرة بدأ الارتقاء الهولندى، أى بالجمال، وهو جمال يتضاعف تقديره من رصد الحالة التى كانت عليها هولندا قبل تفعيله كرافعة ارتقاء إنسانى وتقدم حضارى، فهولندا صعدت بأزهارها البهية ولوحاتها الخلابة، فعلا فعلا، من الحضيض، حضيض الأرض الواطئة، والاحتراب الداخلى، والانكسار للامبراطوريات القريبة والبعيدة، الإمبراطورية الرومانية ثم الإمبراطورية الفرنسية. وكأنها أمثولة لمكافحة القبح بالجمال. هذه هى اللمحة التى جعلتنى أتراجع عما كتبته بعنف، لمحة غمرتنى كأنما بنور من أنوار لوحات رامبرانت، فقررت أن أطيح بما سبق أن كتبته، لأكتب تحت العنوان نفسه شيئا جديدا، يُقر بداية بأن الجمال يمكن أن ينقذ العالم بالفعل، كما عبر عن ذلك كاتبى المفضل الأفضل حاليا: دوستويفسكى، وهو ما أتمنى أن أنتبه إليه دائما، ولا أفلته فى مواجهة همجية وعدوانية كل قبح، ولعلى أصوغ ذلك فى أهزوجة لا ينسينى سجعها عمق وقعها: «الاستباحة قباحة، بالغة الفداحة، ولا تهزمها إلا الملاحة».
تحويل المحنة إلى منحة
فى الأيام الأخيرة أُضيفت استباحتان إلى سجل الاستباحات لدينا، أولاهما: تلك الهجمة الأمريكية البريطانية المسعورة علينا، بزعم سقوط طائرة الركاب الروسية فوق سيناء بقنبلة إرهابية داعشية دُست فى حقائب الركاب بمطار شرم الشيخ، وثانيتهما: طريقة القبض الترويعية التشهيرية الانتقامية الفظة على المهندسين صلاح دياب وتوفيق دياب. وبرغم أن الاستباحة الأولى، واضحة الأهداف كمفتتح لحرب باردة جديدة ندفع ثمنها ظلما وعدوانا، وحرب على نظام تعده أمريكا وحلفاؤها مارقا مما كانت تعده للمنطقة من مخطط تقسيم جديد على أسس طائفية بملوك طوائف جدد لا يكفون عن الاحتراب الداخلى والإذعان للهيمنة الخارجية، فليس أمامنا إلا تحويل هذه المحنة إلى منحة، بمراجعة أنفسنا وسد ثغرات حائط صدنا، فى السياسة، والتشريع، وسيادة القانون السوى، والعدل، ومشاريع التنمية المدروسة ببصيرة الاستدامة وحكمة الأولويات. أما عن الاستباحة الثانية، فلا سوية فى استيعاب فداحتها السياسية والاقتصادية، الإنسانية، والثقافية، إلا بإقرار أن هذه الأساليب لم تعد مقبولة لأى مصرى، اختلفنا أو اتفقنا معه. أبداً لم تعد مقبولة.