حادث دهس المواطن المصرى بالكويت، بسبع سيارات متتالية، ذهابا وعودة، سوف يتم التعامل معه، رغم بشاعته، فى إطار الجرائم اليومية التى تنشرها صفحات الحوادث، سواء فى الكويت، أو فى مصر وغيرها، باعتباره حادثة أو جريمة سوف تنال ما تنال من عبارات الود، وجبر الخواطر، والدبلوماسية، وربما دفع الدية، رغم الارتفاع العام فى ضغط الدم، لدى ما يقرب من أربعمائة ألف مصرى يعيشون هناك، ناهيك عن حالة الاستياء العام فى الداخل بصفة عامة.
إلا أن هذا الذى حدث أيها السادة، إضافة إلى غيره من الأحداث الأخرى المتعلقة بالمواطنين المصريين فى دول النفط بصفة خاصة، يجب أن يفتح أمامنا طوال الوقت ملفاً غاية فى الأهمية، وهو المتعلق بفرص العمل فى الداخل، فلا يجب، بأى حال، أن يقضى المواطن كل حياته، أو معظمها مغترباً، كل علاقته بوطنه إجازات سنوية صيفية، أو كل عدة سنوات، إلى أن يعود فى نهاية العمر بأبناء، ربما كانوا أكثر مواطنة للأقطار التى كانوا فيها عن وطنهم الأصلى.
لا يجب أبدا أن تظل خطط الدولة، على امتداد تاريخها الحديث، وتحديدا منذ حُكم الجماعة إياهم عام ١٩٥٢، قائمة على بند أساسى فى الموازنة العامة للدولة، وهو تحويلات المصريين فى الخارج، هذه الجملة التى أصبحت تثير الاشمئزاز، خصوصا أننا هنا لا نتحدث عن الخارج الأوروبى مثلا، الذى يعيش فيه الفرد مكرّماً، مواطناً كان أو أجنبياً، لا رقيب ولا كفيل، نحن هنا نتحدث عن الكويت، وما أدراك ما الكويت، فربما كان الشعب الكويتى الآن أفضل بكثير، إنسانيا وأخلاقيا، عما كان عليه الحال قبل الغزو العراقى عام ١٩٩٠، حيث الانكسار المعنوى الذى لم يعِشه بالتأكيد القاتل فى الجريمة التى نحن بصددها، نظرا لصغر سنه.
أصبحنا نتباهى على الدوام بهذا البند الخاص بتحويلات المصريين، دون النظر أبدا للكيفية التى جاءت بها هذه التحويلات، والضريبة النفسية التى يسددها المواطن بصفة يومية، خصوصا عندما يجد نفسه أجيرا لدى نوعية من البشر لا علاقة لها بالبشرية، بالتأكيد نحن هنا لا نتحدث على سبيل العموم، فهناك فى كل الأقطار الصالح والطالح، إلا أن الأمر حينما يتعلق بغربة دائمة، نتيجة فشل داخلى دائم فى استيعاب أبناء الوطن، فنحن أمام كارثة، يجب أن يحاسب عليها كل من تناوبوا على أمر اقتصاد هذا البلد.
من المهم أن تتضمن خطط المستقبل، كيفية استيعاب أبنائنا فى الخارج، من المهم أن تكون أولى أولوياتنا فتح آفاق جديدة أمام العمل من خلال المشروعات كثيفة العمالة، ما لا يدركه الكثيرون هو أن ملايين من المصريين العاملين فى الخارج لا يرسلون تحويلات، لسبب وحيد، وهو أنه لا توجد فوائض لديهم لإرسالها، هم بالكاد يعيشون هناك، قد تكون الحياة بالنسبة إليهم فى الغربة نوعا من الضنك، أو الفقر، بالتالى كان وطنهم أولى بهم، إلا أن هذا الضنك للأسف قد لا يجدونه فى وطنهم، فى ظل سياسات غريبة من التخبط والفشل.
الأمر الآخر هو أن المنطقة قد تكون على أبواب مرحلة خطيرة من القلاقل والحروب، التى قد يعود معها الملايين من أبناء الوطن، ماذا أعددنا لذلك اليوم، وقد شهدنا تلك العودة فى الماضى القريب من الشقيقتين ليبيا واليمن، وقبل ذلك من كل من العراق والكويت فى آن واحد، ناهيك عن نزوح خليجى وعربى متوقع أيضا، سوف نُرحب خلاله بذلك القاتل وأسرته، بل وكل ذويه، كما هى عادة هذا البلد المتسامح.
أصبح من المهم مع تطورات الأحداث فى المنطقة، بل وفى العالم، اعتبار الثروة البشرية هى الأهم بين غيرها من الثروات، وذلك باستغلالها الاستغلال الأمثل فى إحداث نهضة وطفرة إنتاجية على كل الأصعدة، ولنا فى كل الدول المتقدمة العظة والعبرة، أما إذا استمرت هذه الثروة بمثابة عقبة يتذرع بها البعض طوال الوقت، فهو الفشل بعينه، خاصة أننا أمام أمر واقع، لا مفر منه، سواء ما يتعلق بالعمالة فى الداخل الباحثة عن فرص عمل، أو عمالة الخارج المنتظر أن تفرض نفسها فى أى وقت.
أعتقد أن أهم نجاح يمكن أن تحققه أى حكومة فى المستقبل، هو الإعلان عن حجم فرص العمل التى تتم إتاحتها بالداخل، وفى الوقت نفسه كم تسبب ذلك فى جذب عشرات الآلاف من المواطنين المغتربين سنويا للعودة لوطنهم، وليس العكس، الذى تتباهى به وزارة القوى العاملة بين الحين والآخر بالإعلان عن وظائف فى هذه الدول برواتب مخزية، وليست مجزية أبداً، استغلالا لحالة البطالة المتفشية، وحين ذلك فقط يمكن أن نعى أن هناك شيئا ما يتحقق على أرض الواقع.
ما أتمناه هو أن يصبح الوطن جاذبا لأبنائه، بدلا من أن يظل على الدوام طاردا، وأعتقد أن ذلك هو القصاص الفعلى للمواطن المصرى الممثل بجثته فى الكويت، بل وإنصاف حقيقى لكل المصريين فى غربتهم.