انتهى فريق من المحللين إلى عزوف الناخبين فى المرحلة الأولى من الانتخابات البرلمانية عن الإدلاء بأصواتهم، اللجنة العليا للانتخابات أعلنت أن حوالى 26.56% من الناخبين هم من ذهبوا إلى صناديق الاقتراع، وهى نسبة عادية قياساً على الانتخابات البرلمانية فى مصر، وهى كذلك عادية ومقبولة بالمعايير الدولية التى تحدد نسبة تتراوح بين 25% و30% للإقبال فى كثير من الدول؛ الانتخابات البرلمانية، غير الانتخابات الرئاسية، سواء فى مصر أو غيرها من البلدان الديمقراطية، حيث يكون الإقبال أعلى بكثير من الانتخابات البرلمانية، إذ تكون المنافسة منحصرة بين حزبين أو مرشحين فى أغلب الحالات، ويكون التصويت على برامج محددة.
حديث العزوف والجدل حوله، بدا عند البعض وكأنه مقصود بذاته ولذاته، وأخذنا بعيداً عن تأمل نتائج الانتخابات وعما أفرزته هذه المرحلة من دلائل ومؤشرات معظمها إيجابى بالنسبة للعملية السياسية وللنظام السياسى كله وبناء الدولة.
انحازت النتائج إلى جوار الدولة المدنية- الوطنية- الحديثة التى نسعى لبنائها، وإن شئنا الدقة التأسيس لها، كشفت النتائج بوضوح عن الانحياز إلى تمكين المرأة والشباب والأقباط، وتمثيلهم فى البرلمان، حيث فاز هؤلاء فوزًا مريحًا إلى حد ما، فى تلك المرحلة، وإلى جوار ذلك تراجع كثيراً الانحياز إلى أنصار الإسلام السياسى، من قبل لم يكُن يسمح للشباب ولا النساء وكذلك الأقباط بمجرد المرور إلى جوار البرلمان وليس دخوله، ولأجل هذا قامت ثورة 25 يناير، التى كان من بين شعاراتها المرفوعة «مدنية -مدنية»؛ ثم جاءت ثورة 30 يونيو لتكون صرخة احتجاج ضد انهيار الدولة، وبالأحرى ضد محاولة اغتيال الدولة الوطنية- المدينة.
عشنا عقودًا تحت وهم أن الناخب لا يريد ولا يقبل بمرشح قبطى ولا يقبل بامرأة تمثله فى البرلمان، ولم يتردد بعض كبار المسؤولين فى أن يعلنوا ذلك فى مناسبات عدة، وكنا ننتظر قرار رئيس الجمهورية بتعيين عشرة نواب يختار معظمهم من النساء والأقباط، وحبذا لو كانت امرأة وقبطية فى آن واحد لتلافى هذا العوار؛ وتحت تأثير ثورتين (25 يناير، 30 يونيو) بات الانحياز واضحًا لدى الناخبين، والرغبة فى إعلاء وجود الدولة المدنية- الوطنية جلية أمام الجميع ومثبتة بصناديق الانتخاب؛ وجدنا فى إحدى دوائر الصعيد أن الإعادة كانت بين مرشحين قبطيين، والناخبين معظمهم من المسلمين، والمعنى هنا أن العملية الانتخابية جرت على قاعدة المواطنة أولاً وأخيرًا. وبين الناجحين خمسة من النواب أعمارهم أقل من ثلاثين عامًا.
فتحت الثورة (25 يناير -30 يونيو) الفضاء واسعًا أمام النساء والشباب والأقباط، حيث وجدناهم يملأون الساحات والميادين فى الثورتين أو الموجتين الثوريتين، وحين نجد أعداداً كبيرة منهم تتقدم للانتخابات، وتعلن النتيجة ونجد بعضهم وبعضهن بين الناجحين فى المرحلة الأولى، فلابد أن نقر بنجاح الثورة وترسخ قيمها وشعاراتها، مع كل خطوة نقوم بها.
وفى هذا الإطار أثبتت نتائج المرحلة الأولى أن بعض ما كنا نعتبره قوى وتيارات سياسية، هو فى الواقع ظواهر إعلامية فقط، وبالمعنى المباشر أو غير المباشر، بأكثر منها ظواهر حقيقية فى الشارع، بعض الاجتهادات الإعلامية ذهبت إلى أن تلك القوى سوف تحصد أكثر من نصف مقاعد البرلمان، والحديث فى ذلك يطول ويطول.
أثبتت المرحلة الأولى قدرة الإدارة المصرية على إجراء انتخابات شفافة ونزيهة، وهذا ما تحاسب عليه الحكومة والدولة، الإقبال على الصناديق مرتبط بعوامل وظروف كثيرة، من أبرزها ما يتعلق بالمرشحين والأحزاب التى تخوض الانتخابات، أما مسؤولية الإدارة، فى المقام الأول، فهى شفافية ونزاهة الانتخابات، وهذا تحقق بدرجة عالية من الكفاءة، بدءًا من تأمين العملية الانتخابية، أى تأمين الناخب فى الإدلاء بصوته، وهذه قضية ليست هينة، فى بعض البلدان يمكن أن تتعطل الانتخابات بسبب انعدام الأمن، حدث ذلك مرة فى الانتخابات الرئاسية بأفغانستان؛ وهناك قضية تأمين صندوق الانتخاب نفسه، ونحن- هنا- خبرنا ذلك من قبل، حيث كان يتم الاعتداء على الصناديق، واستبدالها بأخرى جرى تجهيزها بعيدًا عن اللجنة، وأحيانًا كان يتم إحراق الصناديق أو إغراقها فى النيل، ناهيك عن تصويت المتوفين أو وضع بطاقات تصويت فى صندوق بأكثر من عدد الناخبين المقيدين به، وغير ذلك من المواريث التى عرفناها وخبرناها؛ لكن الآن، نحن بإزاء انتخابات آمنة وشفافة ونزيهة، إلى حد بعيد.
والحق أن كل الاستفتاءات والانتخابات التى أجريت بعد ثورة يناير، تم تأمينها من قوات الجيش والشرطة بكفاءة عالية، وأثبتت الإدارة المصرية رغبتها وقدرتها على أن تكون العملية الانتخابية نزيهة وشفافة، باستثناء جولة الإعادة فى الانتخابات الرئاسية سنة 2012، التى تم فيها ترهيب المواطنين والأقباط وبعض قرى الصعيد ومنعهم من الإدلاء بأصواتهم، بفعل تيار سياسى احترف الإرهاب وترهيب خصومه وكل من لا يسانده.
لا يعنى هذا أننا بلغنا حد الكمال، ذلك أن الديمقراطية كفعل إنسانى لا يمكن أن يصل إلى الكمال أبداً، وهذا ما يدفع الإنسان والمجتمع إلى محاولة تجاوز القصور والنقصان دائماً، ومن ثم التجديد المستمر؛ لكننا فى المرحلة الأولى، وفى ضوء الكثير من ظروفنا والمعطيات المحيطة بنا داخلياً وخارجياً حققنا نجاحاً وأثبتنا الكثير من الإيجابيات؛ التى يمكن أن نبنى عليها ونوسعها فى المرحلة الثانية من الانتخابات وفى قادم الأيام.