استمتعت كثيراً بقراءة المقال - النص الأدبى الجميل الذى نشره الكاتب والمفكر الكبير سمير مرقس فى «المصرى اليوم» عدد الأربعاء الماضى. إنه تأمل فى قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم «مصر تتحدث عن نفسها»، والتى تشدو بها أم كلثوم، وعندما أذيعت القصيدة فى السنوات الأخيرة، سألنى أحد أحفادى عن معانى أكثر من عشرين كلمة فيها «يعنى إيه وردى يا جدو، ويعنى إيه أسدى»!
ولكن الأستاذ مرقس استبدل «مصر تتحدث عن نفسها» بـ«مصر تبحث عن نفسها»، وقد تذكرت مناقشة عاصفة جرت مع الراحل الكبير أسامة الباز فى منزل محمد بن عيسى، وزير خارجية المغرب الأسبق، فى مدينة «أصيلة» أثناء مهرجانها الثقافى المتميز منذ سنوات، ففى هذا اللقاء قال الباز: لقد كانت مصر تبحث عن نفسها وتسأل من تكون، وأجاب عبدالناصر عن السؤال!
لم يكن الباز مجرد موظف كبير فى الخارجية والرئاسة، وإنما من صناع تاريخ مصر المعاصر مثل بطرس غالى شفاه الله وعافاه، ولذلك كان قوله مثيراً وغريباً، قلت للدكتور أسامة: لقد وجدت مصر الحديثة نفسها عند أحمد لطفى السيد عندما هتف فى أوائل القرن العشرين مصر للمصريين، وعندما قام الشعب بثورة 1919، وصدر دستور 1923، وعندما أصدر طه حسين كتابه «مستقبل الثقافة المصرية» عام 1937 بعد معاهدة 1936، وعندما كتب نجيب محفوظ رواية «القاهرة الجديدة» عام 1945 بعد الحرب العالمية الثانية، كانت مصر تعرف من تكون، وكان عبدالناصر يعرف من تكون، وكان هو ذاته من ثمار هذه المعرفة، ولم يحكم بلداً تائهاً يبحث عن هويته، وأيدتنى فى المناقشة زوجة الباز السيدة أميمة.
كان حافظ إبراهيم على حق عندما قال إن مصر تتحدث عن نفسها، وقد أبدع القصيدة بعد صدور دستور 1923، واليوم مصر تبحث عن مستقبلها، وليس عن هويتها، صحيح أن الهوية الوطنية لمصر تعرضت لكثير من الغبار، بل محاولات الطمس، ولكن الشعب قام بثورتين، ووضع دستوراً أزال كل الغبار لتلمع الجوهرة من جديد، والمستقبل يصنعه من يتعلمون فى المدارس والجامعات فى الحاضر ليعملوا بعد عشر أو عشرين سنة، فماذا يتعلمون، ولماذا لا يعرفون «وردى وأسدى»!
مصر تبحث عن مستقبلها فى عالم جديد يتشكل منذ سقوط جدار برلين عام 1989، وسقوط برجى مركز نيويورك عام 2001، ووسط عالم عربى يعيش «الفوضى الخلاقة»، على حد تعبير كونداليزا رايس بعد ثورات شعوبه ضد الأنظمة الاستبدادية منذ عام 2011، والتى لاتزال تقاوم، ومن الطبيعى أن تقاوم، ولكن ليس من الطبيعى أن تعود بأشكال أخرى، ليس هناك بعد الفوضى سوى الديمقراطية، وهى ممارسة طويلة ومركبة ولا تباع «جاهزة» فى أسواق السياسة، وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة.