قامت نهضة مصر الحديثة على أيدي خواجات، بداية من محمد على -باشا طيب الله ثراه- مرورًا بالكثير من القامات الكبيرة ممن لا يتسع الوقت لذكرهم، في الكثير من المجالات مما قد لا يخطر بعضها على بالكم، وصولًا إلى مدربي المنتخب القومي لكرة القدم ومنتخبات ألعاب أخرى كثيرة.
فما المانع في أن نستعين الآن بالخواجات لضبط الأمور وتعديل الأحوال التي يبدو أنها لن تنعدل بسهولة؟
ترددت قبل كتابة هذه الفكرة، ولكنني تشجعت عندما وجدت صديقي الصحفي المصري الجميل هشام يحيي قد صدَّر صفحته على الفيس بوك بالمطالبة بـ «محافظ أجنبي لعروس البحر الأبيض المتوسط»، بعد نكبتها الكبرى وفضيحتها المجلجلة، فضحكت في سري وقلت: «كنت هقولها».
وحتى لا يؤخذ كلامي على محمل الهزار، أو يؤخذ من باب رد الفعل الهستيري نتيجة لتوالي صدماتنا في فشل الإدارة المصرية المفزع في العديد من القطاعات، وهو الفشل الذي ينتهي عادة بقبول استقالة المحافظ أو الوزير، حتى بدا لي أنه فعل «استلطاخ» رسمي للشعب المصري الطيب.
أقول، حتى لا نتمادى في «استلطاخ» بعض، دعونا نُقلِّب الأمر على جوانبه- كما تقول العرب- عندما يريد أحدهم الظهور بمظر المفكر، وكما يمكن لأي «كفتجي» محترف أن يقول -وهو يقلب الكفتة من واقع خبرته بضرورة تعريضها لنار متساوية ولأوقات محسوبة حتى تنضج من دون أن تفقد طراوتها.
العالم كله يستعين بأجانب في إدارة ما يعجز عن إدارته بنفسه، حتى أن الأجانب أنفسهم يستعينون بالمصريين – كأجانب- عندما يحتاج الأمر وجودهم. هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، لم يعد الاستعانة بالأجانب يعني ضرورة استيراد الأشخاص بشحمهم ولحمهم و«سلطاتهم وبابا غنوجهم...»، فكيف يتم ذلك؟
يتم ببساطة عبر الإطلاع على تجارب الآخرين ودراستها بشكل جيد للوقوف على مدى نجاحها لديهم فيما أُنشئت من أجله، ثم دراسة التغيرات الجوهرية الواجب إجراؤها على تلك التجارب لكي تصبح صالحة للتطبيق لدينا فيما نُخطط لتحقيقه، وتعديلها لتناسب ظروفنا «المنيلة بنيلة» لتحقق النتائج المرجوة منها.
يبدو الأمر بسيطًا!
«بالعكس أبسوليتولي»، ليس بسيطًا على الإطلاق، لأنه في حاجة إلى أمر غاية في الأهمية والتعقيد: إنه يحتاج إلى اعتراف.
وإذا كان الاعتراف سيد الأدلة، فمن رابع المستحيلات أن تحصل من مصري على اعتراف بأنه «مش واخد باله»، «أنت اللي مش واخد بالك»، أما هو فجاهز ليخبرك «إزاي».
عمومًا، لا حياء أبدًا في استيراد تجارب الآخرين، ولا حياء كذلك في أن يصحبها «كتالوج» ولا مانع من بعض العقول الخبيرة للتعاون في مرحلة التطبيق إلى أن يتم المُراد من رب العباد وتستقر التجربة على أرض الواقع وتبدأ في الإثمار.
ألسنا نفعل ذلك عندما نقوم باستيراد مَكَن المصانع من أصحاب العقول التي اخترعته، فنشترط عليهم أن يُرسلوا معها عقلًا أو عدة عقول تشبههم لحين استقرار الوضع وانتقال العدوى إلى بعض عقولنا لتتمكن من إدارة الأمر؟
ألسنا نفعل ذلك ونُعلن بفخر أننا اشترطنا على الخبراء الأجانب تدريب أبنائنا ونقل الخبرة إليهم؟
ألسنا نستورد مدربين من دول نجحت نظريًا وعمليًا وحققت شهرة في مجالات الرياضة التي تمارسها؟ فلماذا نخجل من تطبيقه على مستويات أخرى كالتعليم مثلًا الذي نُصر على ترقيعه وتحويله إلى حقل تجارب سخيف! أو في الصحة، أو في الإدارة المحلية؟
نعم في الإدارة المحلية، لماذا نخجل من الاعتراف بأننا فاشلون في الإدارة، وأننا من كثرة ممارسة مناهج الترقيع و«تلبيس العمم» وسد الذرائع، وتمشية الحال، والعمل بمنطق «توجيهات سيادة الرئيس» والزيارات المفاجئة المخطط لها، فقدنا البوصلة وصرنا في أشد الحاجة إلى من يرشدنا عمليًا وعلميًا إلى طريقة سليمة نبدأ من خلالها مع التخلص من النعرة الكذابة التي لم يعد لها وجود إلا في أغاني «المصريين أهمه»؟
إلى متى نكابر ونتعامل مع الأمور بمنطق «أبوالعريف»، المصري «الفكيك» الفهيم «اللي فاهم الكُفت ومتخفاش عليه الخافية»، ويعرف البيضة و«اللي باضها»؟
إلى متى نظل مخدوعين وموهومين بقدرة المصري الفائقة، وهي مجرد فهلوة وحلاوة روح تُصيب مرة وتُخفق في أغلب المرات، إلا أن الفكاكة تدعوه- ليس إلى مراجعة أخطائة- بل إنه يُنظّر لفشله ويضع نظرية في تأويل الفشل، ويصنفه تحت عدة أبواب جاهزة من أول «ربك مش رايد» مرورًا بالنكسة، والهفوة، و«معلش النوبه دي»، و«ربك هيعدلها»، و«بكره تفرج» وصولًا إلى «الرضا بما قسم الله»! ولكنه أبدًا لا يتعلم من الخطأ ويحلل تفاصيله ويدرجها في منهج واضح لتفادي الوقوع فيها مرات أخرى، حاشا لله هو «القضا منه مفر يا أستاذ»؟
ليست فقط الاسكندرية التي تحتاج إلى محافظ أجنبي يا هشام!
الواقع الذي بات لا مفر من الاعتراف به، أن مصر هذه السفينة الكبيرة، لم تعد تلك السفينة التي كتب لها عم نجم «مصر يامَّا يا سفينة» وغنّاها إمام بحرقة أبكتنا جميعًا، إنما هي سفينة تُبحر بلا خريطة، وبلا أدوات ملاحة، فلاحوها لم يعودوا ملاحيها، ولم يعد «اللي على الدفة مراكبي»، ولا «اللي ع المجداف زناتي»، فقد الجميع القدرة على الاستمرار لأنهم استُنزِفوا من طول ما عملوا مضطرين في سياسة إنتاج من دون خطط صيانة، وفي سياسة إنفاق من دون مجمعات استهلاك، عملوا لعقود طويلة بمنهج الترقيع وتمشية الحال إلى أن اتسع الخرق على الراقع ولم يعد في مقدرة أحد ترقيع المزيد.
آن الأوان لبداية سليمة وإلا فقدنا الراقع نفسه الذي لم يعد لدينا غيره، لكنه للأسف قد تُرك عاجزًا بلا حيلة ولا وسيلة ولا اتجاه، بل يلومونه ويسخرون منه عندما يفقد حتى رغبته في الاستمرار في اللعبة التي باتت مكشوفة وسخيفة ومملة.
ماذا تريد مصر من نفسها خلال الخمس سنين المقبلة؟
سؤال أتحدى أن يمتلك أحد في مصر كلها إجابة عليه.
ماذا تريد مصر من أبنائها؟
سؤال آخر لا يمكن لأحد في مصر أن يجيب عليه، سوى ببعض الشعارات الفارغة:
العمل، نريد منكم أن تعملوا... ماذا نعمل؟ وفق أي خطة نعمل؟ لا إجابة.
الولاء والانتماء، نريد منكم الولاء والانتماء.
كيف نعبر عن هذا الولاء والانتماء؟ ما القنوات العملية المحددة لذلك، وكيف تصب في صالح الوطن؟ لا إجابة.
الصبر، فقط نريد منكم الصبر.
على ماذا نصبر ولماذا، وهل نصبر جميعًا أم أن هناك طبقية في الصبر؟ وما هي خطة الصبر والأهداف التي نصبر لتحقيقها وبرامج تنفيذها، وكيف نشارك فيها؟
يا أخي، حتى الصبر له خططه وبرامجه. يا أخي حتى الصبر له حدود. واسأل «الست» حتى السؤال- له شروط.