المُفسد هو من جاوَزَ الصَّوابَ والحِكْمَةَ، وصارَ فاسِدًا، وَلاَ يفكِّر فى أن يُمارس الإصلاح يومًا فى حياته، أى أنه اعتاد الإتلاف والتخريب، وحرق الأرض التى يأكل منها، ويعيش عليها، ويتحدث لغتها، ويدين بدينها، لكنه يرى نفسه غريبًا وشاذًّا، وفوق البشر، مُعتقدًا أنه أُوتِى من المعرفة والعلم والذكاء ما لم يتصف به غيرُه من البشر، ويظل يعيش على توهماته وأكاذيبه، غير راضٍ بتغيير نفسه ومُداواتها من الاعتلال والسقم، ومن ثم يُنصِّب نفسه إلهًا أو على الأقل ظلًّا للإله، أو حاميًا للدين، ويبدأ فى محاربة أعداء الدين، الذين يُحدِّدهم ويقصدهم من أهله وجيرانه وبنى مِلَّته، ومثل هذا يكون قد خرُبت روحه، وفسد ملح قلبه، واضطربت نفسه، وأصاب جهازه النفسى عطبٌ، وضربه التَّلَفُ وَالْخَلَلُ، بعدما انحلَّت أخلاقه وانحرفت عن الطريق القويم.
وأفسد الشَّخصُ - كما يشير قاموس المعانى - أى كفُر وارتكب المعاصى «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ» سورة البقرة، من الآية 30. «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ» [سورة البقرة، الآيتان 11 /12]، وقال سبحانه وتعالى: «وَلا تُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا».. الآية (56) من سورة الأعراف، ويقول سبحانه فى كتابه الحكيم «سَعَى فِى الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ» سورة البقرة، الآية 20 و«وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَادًا» الآية (33) من سورة المائدة.
و«وَلا تَعْثَوْا فِى الأَرْضِ مُفْسِدِينَ» ﴿الآية 74 من سورة الأعراف﴾.
ومفردة الفساد والمُفسدين وحقل دلالاتها ومشتقاتها فى القرآن الكريم كثيرة، وقد ذُكرت خمسين مرةً، والمدهش أن كلمة صلاح ذُكرت فى القرآن خمسين مرةً أيضًا، تمامًا مثلما وردت كلمة رجل مفردة أربعا وعشرين مرة، ووردت كلمة امرأة أربعا وعشرين مرة، كى يعتبر الناس ويتعظوا، ويروا الأضداد، ويدركوا الإعجاز فى التساوى، وحكمة القسمة المنصفة، ولكن يبدو أن المُفسدين لا يتعظُون، ولا يهمهم أن يعلموا، ولا يُدركون جُرم ما صنعت أياديهم.
فأسوأ شىءٍ يمكن أن يرتكبه الإنسان فى حق نفسه، وحق المجتمع، ومن قبلهما الافتئات والتجرُّؤ على الله، أن يدلِّس، ويكذب، ويحرِّف، ويُؤوِّل تأويلا مغلوطًا، ويُغيِّر فى قولٍ صحيحٍ ثابتٍ، أو أن يأخذ جُزءًا من آيةٍ قرآنيةٍ على طريقة «ولا تقربُوا الصلاة...»، ويبنى عليها حُكمًا، أو يفتى فى أمر لا يدريه، أو يُحرِّم ما حلَّل الله، دون أن يرمش له جفنٌ، أو يوجعه ضميره، أو يهتز قلبه، أو يرتجف من خوف الله، الذى يدَّعى أنه يحمى ملكوته فى الأرض، ومن ثم يتخذ من النصوص الصحيحة الثابتة التى حرَّفها ذريعةً للقتل والسَّفك والحرق والترويع والتخويف والترهيب، سارقًا الأموالَ، هاتكًا الأعراضَ، سابيًا ومُغتصبًا النساء، مُعليًا من الباطل، جاعلا منه رايتهُ المرفُوعة باسم الدين.
ومثل هذا من المؤكد أن فى قلبه مرضًا لن يبرأ منه مادام مُتماديًا فى الانحراف والضَّلال والشذُوذ والباطل من السُّلوك والقول؛ لأن الذى يقصد الشريعة ينبغى أن يكون عارفًا بفقهها، بعيدًا عن الجهل والفهم الخاطئ للدين، والتأويل السَّيئ والفاسد لما تركه لنا الصحابة والأئمة والفقهاء وأصحاب المذاهب والثُّقاة من الأسلاف المُعتبرَين وأصحاب الحُجج، إضافةً إلى القرآن والسنة النبوية.
والسؤال الآن: هل هناك فسادٌ عقائدى؟
نعم موجود، ومُستشرٍ، وفى ازديادٍ مخيفٍ، وكلما مرَّ يومٌ انتشر، وعمَّ البلاد، وطال العباد، لأن الذين يعملون فى مجال الدعوة غير مُؤهلِّين دينيًّا، ومعرفيًّا، وبعيدين كل البعد عما ينبغى لهم التزوُّد به، وحمله فى عقولهم ونفوسهم، يهتمون بالقشر تاركين اللُّب فقط، تُسيِّرهم أيديولوجية مذهبية، ومنهم من يعبد الطائفة أكثر من عبادته الله سبحانه وتعالى، ومنهم من ليس على المذهب الذى يدعو إليه بشدَّةٍ ونشاطٍ وحماسةٍ عزَّ نظيرها، لكنه يدعو إليه مُعتقدًا أنه الطريقُ الوحيد والصحيح إلى الذهاب إلى الجنة، أو بأن حُماة هذا المذهب يدفعون بسخاءٍ، ناسينَ أن الناس فُطرُوا على الدين الصحيح، ولا يحتاجون وسيطًا، أو داعيةً غير أمينٍ على أهله ودينه، ينحرف بطريقهم من أجل مصلحته هو، وليس ابتغاءً لمرضاة الله.
وهذا يذكرنى بما تم العثور عليه فى صعدة (اليمن) من جوازات سفر، بها تأشيرات تخوِّل أصحابها من الحوثيين السفر إلى الجنة. وهى جوازات كان قد أصدرها الإمام الخمينى «24 من سبتمبر 1902 م - 3 من يونيو 1989م» فى ثمانينيات القرن الماضى، ووزِّعت فى سريةٍ وتكتم شديد على مُريديه وأتباعه فى أماكن كثيرة من العالم، ومنهم أتباعه من الحوثيين من أصحاب المذهب الزيدى.
ولا يخفى على أحد أن جماعة الحشاشين فى قلاع آلموت، عبر مؤسسها حسن الصباح (430ه/1037م - 518ه/1124م)، قد فعلت الشىء نفسه سنة عام 1094، ومن بعده بأربعمائة سنة تقريبا ظهر البابا لاون العاشر (11 من ديسمبر 1475 - 1 من ديسمبر 1521 م) بابا الكنيسة الكاثوليكية السابع عشر بعد المئتين، وأصدر صكوك الغفران الشهيرة، وهى «الإعفاء الكامل أو الجزئى من العقاب الدنيوى على الخطايا التى تم الصفح عنها».
فنحن ندعو إلى إصلاح المجتمع عبر القضاء على الفساد، واجتثاث جُذُوره، وحرق رؤُوسه، وهم كُثرٌ، أو على الأقل الحدِّ من انتشاره، وهذا أضعف الإيمان، والتنبيه إلى رموزه، لكننا ننسى، أو نتناسى - عمدًا أو انشغالا أو حتى سهوًا - أن نحارب الفساد العقائدى الذى ضرَب الناس، وصارت الفتاوى هى البضاعة الرائجة والأكثر انتشارًا، ولم يحدث فى تاريخ الأمة الإسلامية، أن صارت الفتاوى فى زيادةٍ سرطانيةٍ كما نحن فيه الآن ومنذ سنواتٍ.
وربما جاءت هذه الزيادة منذ أن تَسيَّس الدين، وصار الإسلام السياسى، أو التأسلُم، أو المتأسلم أو المتأسلمُون أو الإسلامجية، وغيرها من تعبيراتٍ ومصطلحاتٍ، يتم تداولها فى الكتابات والأدبيات المعاصرة التى تُؤرِّخ للسياسة والدين معًا فى وطننا، وأصبح ميدان الدعوة مُسيَّجًا أو مُحاصرًا بالسياسة، محمُولا على رؤُوس الجهلاء الذين يفتون بغير علمٍ، ومن ثم عمَّ الإضلالُ والإظلامُ، وفى غيبة العلماء العارفين بأمور الدين (... اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)، كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يعلم أن أمَّته لن يبقى فيها علماء حين أخبر قومه بهذا الحديث؛ ولذا يحتاج ميدان الدعوة إلى تصفيةٍ وتنقيةٍ وضبطٍ واجتثاثِ من ليس له أدنى علاقة بالعمل الإسلامى، أو من يستغل موقعه كخطيبٍ وإمامٍ فى مسجدٍ، أو داعية بين الناس (يشتغل بالقطعة)، أى مقابل أجر فى وسيلةٍ إعلاميةٍ أو غيرها من الأماكن والجهات التى يمكن أن تمنحه مالًا، لتسييس الدين، وحمل أوجهه على ما ليس تحملُ أو تتحمَّلُ من دلالاتٍ ومعانٍ، بُغية تسييد مذهبٍ ما، أو الدعوة إلى جماعةٍ ما، أو انتصارًا لتيارٍ أو تنظيمٍ، لأن الفوضى فى هذا الميدان تجعل الناس مترُوكين نهبًا لأدعياء الدين، الذين ليسوا أهلا للفتوى أو الاجتهاد، ومن الواجب هتك أستارهم، وفضحهم، ورفع أذاهم عن الخلق؛ ليسلم المجتمع من تجارتهم، التى للأسف تروج وتربح يومًا بعد آخر.