x

مفيد فوزي بلتاجى الذى أحببناه.. مفيد فوزي الجمعة 23-10-2015 20:07


قيمة هذا المقال أنه «تذكير» للناس، برموز فقدها الوطن، وربما نسيها الناس باعتبار أن «آفة بلدنا النسيان»، كما قال نجيب محفوظ على لسان أحد أبطاله، واحد من هؤلاء هو الدكتور ممدوح البلتاجى أو «بلتاجى»، كما كان يناديه مبارك، وبلتاجى ليس فى شهرة عمر الشريف أو نور الشريف، فالنجوم حين يرحلون يبكيهم كل الناس ويتذكرونهم لأن لهم إنتاجاً بالصوت والصورة يذكره الناس وربما يحفظونه عن ظهر قلب، ولكن المنتج فى حالة ممدوح البلتاجى هو «الوعى العام» والكشف عن مكنون الوطن الثابت الأصيل، ورغم أن البلتاجى جاء فى الزمن الشمولى - وهذا قدره - لكنه كان يراه «نظاماً سياسياً لا يريد للعقل أن ينفتح أو يتشعب فى الرؤية»، هذا المنتج السياسى وضع البلتاجى فى خانة النخبة السياسية، فلم يكن مجرد وزير فى زمان مبارك، إنما كان صاحب رؤية، وعندما يكون فى مصر وزير برأى ورؤية تتضافر عوامل شيطانية للإطاحة به قد تكون أكبر من قدرة الحاكم السيطرة عليها، فلست أظن أن بلداً يمكن أن يفرط فى عقلية كعقلية بلتاجى، وهو فى موقع وزير الإعلام.

و«للإنصاف» وهى قيمة أحرص عليها كلما تعرضت للكتابة عن شخصية من الشخصيات ذاقت مرارات مختلفة، وأعتقد أن فترة ممدوح البلتاجى كوزير للإعلام لو طالت، لأفادت كثيراً لأنه بإيمان غير محدود يعتز بقيمتين هما «العقل والحرية» وعندما اقتربت من عقل ممدوح البلتاجى شممت عطر الليبرالية فى تفكيره وصاغ فى رأسى مفهوم «المهموم بالوطن» وجعلنى أقترب كثيراً من شاشة وإذاعة تريد أن «تغير» فى حياة الناس وتدق فوق العقول لتصحو بدلاً من التثاؤب الطويل، وكواحد من كتيبة ماسبيرو أشهد بجهود ثلاثة وزراء للإعلام، ينبغى التوقف عندهم. 1- د. جمال العطيفى، أدخل السياسة فى مفردات الشاشة وجعلها لغة تفاهم. 2- صفوت الشريف، ألحقنا بنادى الفضاء العالمى وبنى مدينة للإنتاج وتعامل مع المستقبل بخطوات ثابتة. 3- دكتور ممدوح البلتاجى رسخ مفهوم أنه «لا خصومة بين صناع القرار والناس» وأنه لا انفصال بين الثقافة والسياسة وأن الفصل بينهما يؤدى إلى أن تفقد السياسة واحداً من أهم أسلحتها وهو الوجدان الذى تخاطبه الثقافة.

لقد كان ممدوح البلتاجى يحمل عقلية إنسانية الاشتراكية، وفى كثير من مناقشاته وحواراته يسعى لأنسنة أفكاره، وقد ظن نظام عبدالناصر أن البلتاجى شيوعى وكان قاضياً فتعرض لما أطلق عليه تاريخياً مذبحة القضاة يوم قرر عبدالناصر إعادة تشكيل المحاكم والنيابات، وخرج البلتاجى فى المذبحة، مذبوح الروح، مكسور الوجدان وشاركه فتحى نجيب الذى صار فيما بعد رئيساً للمحكمة الدستورية وسمير ناجى من شيوخ القضاة، صاحب مركز الدراسات القضائية وممتاز نصار، الصوت المجلجل فى مجلس الشعب، وقد أعاد السادات تعيينهم وأعاد لهم الاعتبار الأدبى.

■ ■ ■

لقد كان أول تحقيقات أجراها الشاب النابه ممدوح البلتاجى كوكيل نيابة هو قضايا الإرهاب فيما عرف بـ «الإخوان المسلمين» بين عامى 1966-1968، وبعد المذبحة الشهيرة للقضاة، لم يعد البلتاجى للقضاء ولم يستمر رغم إعادة التعيين، ويمكن القول - كراصد - لمشواره أن شهرته والالتفات إليه اكتسبهما من شرفة الاستعلامات أو النافذة الإعلامية الرسمية لمصر والمعبرة عنها وكان ممدوح البلتاجى ينظر للاستعلامات على أنها «فرصة ذهبية سانحة لكسب التفهم والفهم والتعاطف والتأييد من الرأى العام العالمى للوطن ككل»، من هنا كان بلتاجى وراء هذه الموسوعة الثقافية «سلسلة وصف مصر»، ذلك أفضل إفرازات الاستعلامات، زمن ممدوح البلتاجى، تلك هى «الصناعة الثقيلة للإعلام» فى رؤية بلتاجى، فقد كان من وجهة نظره أن «رجل الاتصال الحديث لابد أن يكون مزوداً بثقافة تراثية ومصر دولة إنسانية الرسالة».

■ ■ ■

إن عدداً من شركات السياحة والفندقيين بكوا ممدوح البلتاجى «وزير السياحة» وترحموا على أيامه. هو القائل «السياحة قاطرة التنمية»، هو القائل «قد تمرض السياحة ولكنها لا تموت». كنا فى بورصة برلين السياحية وسمعت ممدوح البلتاجى يقول لباهر مالك، مستشار مصر السياحى فى ألمانيا، عبر مؤتمر صحفى، وتوقيت ذلك عقب أحداث عنف فى مصر، «لا تحاول أن تجمّل الصورة وتنفى حدوث أعمال عنف، قل الحقيقة وأعط أملاً أن الدولة فى مصر مسيطرة على الأمور وأن العنف يتناقص مع الأيام، إنك - بهذا النهج - تكسب الجولة وتنجح فى خطابك. هكذا يجب أن نتكلم مع الغرب، قل الحقيقة ولا تخفها لأن له مصادر أخرى سوف يعرف منها تفاصيل الصورة، والغرب لا يحب الإنشاء، وغير مدرب على أسلوب السجع فى لغتنا العربية. ولهذا كن مباشراً وأنت تتكلم مع الألمان» لا أنسى مطلقاً هذا «الدرس العميق» من ممدوح البلتاجى لواحد من أكفأ مهاراته السياحية فى أوروبا: باهر مالك.

وعندما أحلل كلام بلتاجى، أكتشف أنه يحرض على ذكر الحقيقة وعدم حجبها وذلك بحكم تكوينه كقاض، ذلك أن الاعتراف بالواقع يعطى طمأنينة ومصداقية، وفى نفس الوقت ينطوى على «احترام ثقافة الآخر» فى مفهوم البلتاجى. لقد كنت أرى فى بلتاجى نمطاً من المسؤولين «خارج الصندوق»، وقليلون هم الذين تشعر أنهم بعقليات مختلفة لديها رؤية حتى ولو خالفت منهج القبيلة. كم كان راقياً فى التفكير، كان يعشق مصر ويبدع فى كل مهمة أوكلت إليه، كانت إجادته للغات الأجنبية إحدى مهاراته الخاصة التى شعر بها الفرنسيون أثناء تواجده مستشاراً فى سفارتنا بباريس. كان يحافظ على ضوابط ونواميس المجتمع. كان يضع خبراته رهن بلده. مرة قلت له «أنت قليل الأحاديث الصحفية»، قال بلتاجى: عندما يكون لدىَّ إنجاز ما، سأذهب بنفسى إلى الصحافة، فقلت له لا تتواضع يا دكتور ممدوح! قال «أنا لا أتواضع، أنا أقرر وكل ما أفعله هو بروفة لمنتج أكبر»، قلت له بدهشة: فى شهور فقط وزير الإعلام رد بسرعة «ليس هناك - فى عالمنا - فرق كبير بين المسؤول وقطعة الشطرنج» وفهمت ماذا يقصد.

■ ■ ■

كنت أشعر أن هناك «مساحة ما» أو لنقل «مسافة ما» بين ممدوح البلتاجى وغيره من المسؤولين، كان يقدس الحرية الشخصية وللمرأة مكانة كبيرة عنده، كان معتزاً بكرامته، واثقاً فى نفسه مدركاً لدوره الحقيقى فى رفعة بلده، ولهذا لم يتكالب على منصب من المناصب، لقد كان وزيراً للشباب وكان وزيراً للسياحة وكان وزيراً للإعلام، وفى لحظات صفاء نادرة كنا نلتقى فى مطعم بعيد عن الصخب فى نهاية الهرم، وكان يصارحنى بأنه «ملحقش يحقق طموحه فى الإعلام» كان يرى أن «الإعلام هو حرب الجيل الرابع من الحروب» كان يقول: حرف زائد حرف زائد حرف يساوى كلمة وكلمة زائد كلمة زائد كلمة تساوى جملة مفيدة، وهكذا المنتج الإعلامى، تزرعه فى عقول الناس يوماً بعد يوم لتحصد الغلة «وعى وثقافة وأصالة وترسيخ لقيم» كان بلتاجى يقول لى «ليس هناك أعظم من العمل وسط الناس، إنه مكون أساسى فى إثراء الديمقراطية، فأنا كمسؤول، آخذ من الناس مؤشرات الطريق قبل اتخاذ القرار.

وبدأت فترات التلاقى بينى وبين ممدوح البلتاجى تتباعد، ثم علمت بمرضه فكنت كلما التقيت الفاضلة د. جنات السمالوطى زوجته ورفيقة الأيام والسنين، أسأل عنه بقلق، كان ممدوح قد آثر الصمت بعد زمن ثرى بالفكر والفهم، كان ألزهايمر قد بدأ يضربه كإعصار مفاجئ، أنا لا أعترض على مشيئتك يارب، ولكن كيف تكف عقول عن الدوران بحجم أحمد بهاء الدين وأسامة الباز وعمر الشريف وممدوح البلتاجى؟ وبدأ البلتاجى ينسحب تدريجياً من المجتمعات بعد فقدان ذاكرته، أثمن ما لديه، لا أستطيع أن أرى ممدوح البلتاجى على هذا النحو وربما لا يعرفنى إذا رآنى، فتكون الصدمة كبيرة وقاسية، ووجدت نفسى أنسحب من رؤيته رغم قرب بيته جغرافياً منى، واكتفيت بسؤال أحمد البلتاجى، رجل الأعمال الشاب الناجح، ابنه الوحيد، وكانت الإجابة الوحيدة التى أسمعها من جنات السمالوطى «الزوجة» وأحمد البلتاجى «الابن» هى «مفيش جديد»! توقف عقل بلتاجى الذى كان مشتعلاً بين عام 1985 حتى عام 2005، وخلال عام 1992-1993 كان أمين عام محافظة القاهرة فى الحزب الوطنى وحتى حل مجلس الشورى، حتى تم حل الحزب فى أعقاب ثورة 25 يناير 2011، فقد تبوأ منصب أمين الإعلام فى الحزب، وفى 24 إبريل عام 2012 تم عزله سياسياً بعد صدور قانون العزل السياسى من مجلس الشعب قبل انتخابات الرئاسة المصرية، وهو الحاصل على وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، وبعد العزل السياسى، تمت «عزلة» العقل وهو الذى لم تغب مصر عن باله ثانية واحدة، ولكن الثورات تفعل أسوأ من هذا وتغيب الحقائق وتهتز الموازين وتذهب أقدار الرجال.

■ ■ ■

فى دنيا، يعلو فيها الصخب، تتوه حقائق كثيرة ويضيع من أقدامنا الطريق ونصدق الأقنعة، ويصعب علينا أن نحدد من حمل الأمانة ومن خان الأمانة، خاصة عندما يكون الهدف «عبادة السلطة» ولا شىء سواها، والبلتاجى سعت إليه السلطة ولم يسع إليها ولا حلم بها، فكان طرازاً لرجل الدولة، صادقاً مع نفسه ومع الناس وظل قاربه يصارع الأمواج وسمك القرش ويبتسم!

ممدوح البلتاجى

هو من النادرين الذين لم توجه إليهم أصابع اتهام بإفساد سياسى.. أو فساد مالى، وأشهد أنه كان على يسار النظام وواجه متاعب جمة.

البلتاجى الذى أحببناه عاش نظيفاً ومات شريفاً، و.. ولم ينتقل إلى منتجع بل ظل فى شقته القديمة وسط الناس الذين أحبهم وأحبوه، لم يحيا كالنجوم وأثرياء الحروب، كان «وكيل نيابة» يستدعى نفسه دائماً، ثم مارس دور القاضى على نفسه عند اتخاذ أى قرار، مرة سألته: ما أقسى ألم تتعرض له؟ قال: «ألم الضمير، إنه ليس ألماً جسمانيا، لكنه لسعات فى الروح تقلب موازينك وتتقلب على جمر النار يا صديق الأيام الماضية والقادمة».

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية