فرح العرب بثورتهم الشعبية منذ ما يقرب من خمس سنوات. وقارنوها بالثورة الفرنسية وغيرها من الثورات الشعبية. ثم حزنوا عندما لم يحسنوا قيادتها إما لغياب القيادة الثورية أو لغياب الأيديولوجيا الثورية الواحدة أو لغياب التنظيم الثورى بعد الثورة. لذلك سارت الثورة فى عدة تموجات أبرزها من الدين إلى الجيش.
ومع ذلك أبرزت الثورة عيوب الوطن العربى بطوائفه ومذاهبه وأعراقه وقبلياته. وظهرت مضادات المبادئ الأربعة للثورة: ليست الحرية بل الاستبداد، وليس الخبز بل الفقر وارتفاع الأسعار، وليس العدالة الاجتماعية بل الظلم الاجتماعى واستمرار العشوائيات وأزمات الكهرباء والمياه والصرف الصحى، وليست الكرامة الإنسانية بل خرق حقوق الإنسان.
وأصبح الإرهاب هو العدو الأول للثورة. وجند الجيش والشرطة ضد الإرهاب على امتداد البلاد، خاصة فى سيناء. وعمّ الإرهاب والإرهاب المضاد. وسالت الدماء. وعمت لغة الانتقام والأخذ بالثأر. وانتشرت مقاومة الإرهاب فى الإعلام. ثم خفت نغمة الإرهاب قليلا وسادت نغمة الفساد الحكومى بالمليارات من وزراء يتاجرون فى أراضى الدولة. وكما حدث للرؤساء من القصر إلى المعتقل حدث للوزراء من مجلس الوزراء إلى السجن. وتم ذلك قبل الثورة أو بعدها. وأصبح تغيير الوزارة مستمرا تخلصا من الوزراء الفاسدين.
ولم تظهر ضرورة القضاء على الاستبداد. صحيح أن هناك استعدادات تجرى على قدم وساق للانتخابات التى لا يعرف أحد برامج أحزابها. تسعى كلها من خلال البرلمان للوصول إلى السلطة. ويتآلف الفلول ورجال الأعمال والجماعات الدينية للاستيلاء على البرلمان باسم الديمقراطية. وغالبية الناس تتباعد عن هذه المسرحية خوفا من الانزلاق فيها وخسارة الوطن.
ولم تظهر إسرائيل فى أى من برامج الأحزاب، نشراتها أو دعاياتها. واختفى العدو الرئيسى الأول للأمة العربية. بل تمت الدعاية لها بتوسيع معاهدات السلام. وتم تدمير الأنفاق على الحدود المصرية- الفلسطينية التى طالما ضاقت إسرائيل بفعلها والتى يُساء استخدامها أحيانا. وتحقق حلم إسرائيل بتفتيت الوطن العربى، العراق وسوريا، وإشغال مصر فى سيناء. لم يعد العدو فى الخارج بل فى الداخل. يقتل بعضنا بعضا باسم الطائفة أو العرق. ولم تعد إسرائيل فى حاجة إلى جيش لمحاربة جيش. ولم تعد تخشى من الجبهة الشمالية، سوريا والعراق ولبنان، بعد أن تفتتت جيوشها وحارب حزب الله الثورة السورية تدعيما للاستبداد. ودخلت إيران العراق وسوريا ولبنان بدلا من التآلف العربى الإيرانى بل والتركى. فالصديق جعلناه عدوا، والعدو جعلناه صديقا. والعراق وسوريا فى طريقهما إلى التفريغ من السكان، مهاجرين عبر البحار إلى باقى أجزاء الوطن العربى أو إلى أوروبا الشرقية كى تصبح فلسطين ثانية. ويحل اليهود العراقيون والسوريون بدلا عنهم. عائدين إلى أوطانهم. وبدلا من محنة واحدة 1948/1967 تكون لدينا ثلاث محن، سوريا والعراق 2015. والباقى فى الطريق، ليبيا واليمن. ويكون ذلك أحد تنويعات الشرق الأوسط الجديد الذى تملؤه إسرائيل وأمريكا، ويفرغ من أصحابه.
لقد كانت الدولة الوطنية مكسب حركة الاستقلال الوطنى. وتمتع مواطنوها بالحرية والاستقلال. ثم تحولت إلى نظام مستبد فاسد. يخلخل نفسه بنفسه حتى رأى فى القومية العربية مخلصا. تحميه من الاستبداد والفساد من المحيط إلى الخليج. ثم تعثرت تجربة الستينيات بالعودة إلى الدول الوطنية. واستمرت تجربتها مدة طويلة حتى عم الاستبداد والفساد. وكان لابد للشعب أن يثور. وهو ما حدث فى يناير 2011.
وانتشر الإسلام السياسى بكل فروعه، المسالم والمحارب، الإخوان، داعش، نصرة.. ليملأ الفراغ الأيديولوجى العربى، مستندا إلى تراث إسلامى محافظ، خاصة فى الفقه. يكاد يعم الوطن العربى بالفعل أو بالقلب. ويشوه صورته بالعنف والذبح والقتل. البعض يجد فيه الخلاص، والبعض الآخر يسأل: وما البديل؟ ينضم إليه كل غاضب من وطنه مسلما كان، زهق من نظم الحكم السابقة، أم غربيا، زهق من حضارته المادية، فى بلاده التى تخلفت وهُزمت واحتلت أراضيها.
والكل الآن ساكن فى مكانه ويسأل: ما العمل؟ يترك نفسه لحكم القدر أو ينضم إلى تنظيم سرى خفى لم يحن الوقت بعد لظهوره. وفريق ثالث يعمل فى شرعية مضبوطة من أجل تطهير نظام الحكم يتم ضبطها بين الحين والآخر والحكم على تنظيم غير شرعى لقلب نظام الحكم.
لقد استُهلك موضوع الإرهاب. ولم يعد أحد يصدق أنه لو تحركت ذبابة فإن وراءها الإرهاب، وتنظيم جماعة معينة. وقارب موضوع الفساد أيضا أن يُستهلك. نظرا لتردده الكثير. ينقص إذن البحث عن موضوع ثالث جديد يعبر عن حاجة الناس، خاصة الطبقة المثقفة، وهو الحرية ضد الاستبداد. ويجيب عن سؤال: لماذا يستمر الاستبداد بالرغم من تغير نظم الحكم ومظاهر الديمقراطية من دينى إلى عسكرى؟ وأين العدو الرئيسى منذ أكثر من نصف قرن والذى دخلنا معه عدة حروب ومازال قائما يستوطن ويتوسع ويطرد سكان الأرض ويهدم المنازل؟ والفلسطينيون وحدهم يقاومون. والعرب فى همومهم الداخلية وحروبهم فيما بينهم تاركين الفلسطينيين وحدهم يدافعون عن الأرض وعن الأقصى. وكيف يستطيع العرب إعادة تخطيط مستقبلهم للدفاع عن أراضيهم وإعادة ما يُسلب منها؟ كيف يستطيع العرب تحويل عناصر ضعفهم قوة، وعناصر قوة إسرائيل ضعفا؟ فالحرب ليست فقط بالسلاح بل بالموارد الاقتصادية المتوفرة عند العرب. كيف تعود إسرائيل العدو الأول والرئيسى للعرب بدلا من الاقتتال فيما بينهم وقتل الآلاف وتهجير الملايين من أراضيهم؟ كيف يستطيع العرب أن يستفيدوا من موقعهم الجغرافى وثقلهم التاريخى بالتحالف مع تركيا وإيران ليكوّنوا قوة جديدة فى الشرق الأوسط تملأ فراغه بدلا من أمريكا وإسرائيل فى شرق أوسط جديد وتحيط بإسرائيل أيديولوجياً واقتصادياً وعسكرياً؟ هل تستطيع مصر أن تضع استراتيجية جديدة لها تدافع عن نفسها وعن العرب، وأن تتحول من مواجهة الأعداء الداخليين الحقيقيين أو الوهميين إلى العدو الحقيقى الخارجى؟
يخشى البعض على وجود العرب فى التاريخ. فقد سبق أن غادروا الأندلس فى نفس الظروف، حروب الطوائف. ولكن ظهر أيضا صلاح الدين الكردى. فكل من تكلم العربية فهو عربى. إنما العروبة هى اللسان. وحرر بيت المقدس. هل كان عبدالناصر أم أنه مازال قادما. وُلد أم لم يُولد بعد؟