فى الواحدة بعد منتصف الليل، وبعد أن يسكن الشارع الشعبى السكندرى، كانت تمر سيارة أحد المرشحين وميكروفونها المزعج يبث الأغانى الوطنية مع اسم المرشح وبياناته الانتخابية، ويكرر دورته فى الشارع والشوارع المحيطة حتى الثالثة فجراً.
أما شوادر المرشحين فى الإسكندرية طوال فترة الدعاية فكانت خاوية على عروشها رغم الإغراءات الكثيرة التى قدمها بعض المرشحين بدءاً من الطعام والشاى، وانتهاءً بالحشيش لكبار العائلات إذا زاروها، ورغم ذلك لم يؤمها أحد من الشباب المثقف.. بدأ بيع الأصوات فى الإسكندرية يعود مرة أخرى، بدأ السعر بمائة وظل يرتفع حتى 500 فى اليوم الثانى للتصويت.
خلت الجولة الأولى من الانتخابات من البرامج أو حتى الوعود المحددة للإصلاح أو عزم مؤكد لرقابة الحكومة، ولكن الوعود كلها باحتضانها كالأم الرؤوم وعشقها كالزوجة الجميلة.
إن مشكلة بعض المرشحين اعتقادهم أن الأغانى الوطنية ستطعم الشعب من جوع وتغطيه فى الشتاء وتكيفه فى الصيف، وأنها ستحل كل مشاكل المواطنين مثل ارتفاع الأسعار والبطالة وغيرهما.
لقد كان الإفراط فى أهمية الأغانى الوطنية والإعلام الحنجورى من أهم السلبيات فى الستينيات.. كما كانت الأناشيد المهيجة والخطب التى تدغدغ العواطف من أهم السلبيات عند الحركة الإسلامية المعاصرة.. وكلا الفريقين بدأ يترك هذه الطريقة التى يريد البعض أن يتمسك بها اليوم.. وكل ذلك، سواء انطلق من أى زاوية، لا يطعم جائعاً ولا يسقى ظمآناً ولا يستر عارياً ولا يوظف شاباً.
لقد نسى المرشحون أن الأغانى الوطنية كانت تؤثر فى الستينيات مع الحنجورى، لأنها كانت تساندها عدالة اجتماعية وطبقة متوسطة قوية، وكانت البطالة منعدمة.. وكانت المصانع تُبنى كل يوم ولكنها تتوقف الآن عن الدوران منذ أربع سنوات والدولار يرتفع والجنيه ينخفض.. ورغم ذلك أضر الإسراف فى الأغانى الوطنية واللغة الحنجورية مصر كلها التى أفاقت فجأة عام 1967 من حلمها العظيم بتحرير فلسطين إلى احتلال سيناء والجولان والضفة، ولأول مرة القدس والمسجد الأقصى منذ أيام صلاح الدين الأيوبى.
حينها أدرك الجميع أن الأغانى الوطنية والإعلام الحنجورى ليس كافياً لتحقيق النصر فى المعارك العسكرية والسياسية والاقتصادية والديمقراطية والتنموية.. إنها محفز فقط، فإذا أفرطنا فى التحفيز دون عمل أو برامج أو إدارة جيدة فإننا قد نصل إلى اللحظة التى ندم واكتأب فيها وحاسب نفسه عليها طويلاً الراحل صلاح جاهين مع عبدالحليم حافظ حينما قال الأول للأخير: هل نحن خدعنا الناس أم أننا نحن الذين انخدعنا؟
إن المرحلة الأولى فى الانتخابات اتصفت بصفة عجيبة جداً وهى أنها انتخابات الأغانى الوطنية دون برامج على الإطلاق، حتى إننى قلت لأحد المرشحين: لماذا لم تكتب برنامجاً انتخابياً؟ فقال: وهل إذا كتبته سيقرؤه أو يهتم به أحد؟
فهل ستدشن الأغانى الوطنية والإعلام الحنجورى برلماناً جيداً.. وهل ستوجد أمثال إبراهيم شكرى أو صلاح أبوإسماعيل أو خالد محيى الدين أو محمود القاضى أو ممتاز نصار أو البدرى فرغلى تحت قبة البرلمان الجديد؟
وهل الأغانى تُغنى أن يكون بين المرشحين سياسى مخضرم أو قانونى فذ أو برلمانى لا يخشى إلا الله ولا يبغى سوى وطنه.. لقد كانت الحنجورى والخطب التى تدغدغ العواطف وتحول المستحيلات إلى ممكن وتهزم العالم كله بأقل الإمكانيات السبب الرئيسى فى مأساة «رابعة» بكل ما فيها.. فـ«رابعة» تمثل الأغانى المهيجة والشعارات الرنانة والكلمات التى تدغدغ العواطف، والتى تجعلك تتصور أنك ستهزم العالم كله.
إننا نريد أن نفعل أكثر مما نتكلم.. ولا نتكلم قبل أن ننهى العمل ونجوده ونحسنه وننال فيه ثقة العالم كله ومؤسساته العلمية والتقنية.. فلا نتحدث عن جامعاتنا حتى تكون فى التصنيف العالمى لأفضل الجامعات الذى خرجنا منه ودخلته كينيا وبنجلاديش وجنوب أفريقيا، فضلاً عن إسرائيل.. ولا برلماننا حتى يشهد العالم بتجربته البرلمانية.. ولا علمائنا حتى يحصل عالم أو أكثر على نوبل كل عام.. إن لغة الحنجورى بلا عمل لن تصنع أمة متقدمة ولا دولة حديثة.
لقد كان اليمنى البسيط فى الستينيات يعتقد أن مطار اليمن هو أعظم مطار فى العالم رغم أن الماعز كانت تسرح وتمرح فى الممرات ويطردونها قبل نزول الطائرات أو صعودها.. فهل يريد هؤلاء المرشحون أن يكرروا معنا مأساة اليمنى البسيط؟