x

بهي الدين حسن محاكمة «الربيع العربى»! بهي الدين حسن الأربعاء 14-10-2015 21:48


بهي الدين حسن ـ يكتب:

شهد العالم العربى خلال الأعوام الأخيرة تدهورًا غير مسبوق فى وضعية حقوق الإنسان، الأمر الذى أفضى إلى كوارث إنسانية غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، على صعيد عدد القتلى المدنيين واللاجئين والنازحين والمهاجرين. للأسف لا توجد دلائل تشير إلى تغير أبرز مؤشرات هذا التدهور قبل رحيل عام ٢٠١٥، فالعوامل والقوى التى تقف خلف هذا التدهور النوعى باقية. الأمر الذى قد يقود بالتالى إلى تدهور أكبر، ومآس إنسانية أكثر قسوة، وتفكك دول أخرى، وتعاظم المخاطر بصورة غير مسبوقة، تتجاوز نطاق العالم العربى، لتمتد إلى السلم والأمن الدوليين.

«الربيع العربى» ليس سببًا لهذا التدهور المخيف، بل بالأحرى فإن «الربيع العربى» كان آخر محاولة جادة من شعوب المنطقة لقطع الطريق على هذا المسار. لكن عوامل وقوى الهدم كانت أقوى من قوى الإصلاح والتغيير، سواء على الصعيد الوطنى أو الإقليمى. بينما فشل المجتمع الدولى فى أن يكون على مستوى تعقيد هذه «اللحظة» التاريخية وتحدياتها. لقد أفلتت «الفرصة»، وتدفع وستدفع ـ كل الأطراف ثمنًا باهظًا، مرشحًا للارتفاع بمرور الزمن، إذا ما بقى العجز الوطنى والإقليمى والدولى قائمًا.

لاشك أن أهم حدث خلال عام ٢٠١٤، هو التطور النوعى الذى جرى لقوى الإرهاب، وذلك بميلاد أول «دولة» إرهاب فى التاريخ. هذا الحدث التاريخى ليس إحدى ثمار «الربيع العربى»، بل بالأحرى ثمرة ١٤ عامًا من الفشل فى مكافحة الإرهاب منذ هجمات ١١ سبتمبر، وانتهاج استراتيجية عرجاء وحيدة الجانب، ترتكز فقط على الوسائل الأمنية والعسكرية، وتتجاهل الجذور السياسية والاجتماعية والدينية، وتضحى بحقوق الإنسان. إنها أيضًا ثمرة عقود متواصلة من التدمير المنهجى فى عدة دول لمرتكزات الدولة الوطنية الحديثة –التى تأسست فى العالم العربى فى أوائل القرن الماضى. الأمر الذى أعاد تدريجيًا هذه الدول إلى وضع أقرب إلى صورتها البدائية الأولى. أى مجموعة من القبائل والطوائف الدينية والمجموعات الإثنية المتجاورة، التى جرى إخضاعها بأبشع الوسائل فى التاريخ حتى تتعايش مع هيمنة جماعة طائفية و/أو عرقية و/أو سياسية معينة، بما فى ذلك ارتكاب أعمال القتل والاغتصاب والتعذيب والسلب والتهجير الجماعى. فى غياب نظام قانونى ودستورى يستحق هذا الاسم، ومؤسسات غير فاسدة تسهر على كفالة الحد الأدنى من الانصاف وعدم التمييز والعدل والعدالة الاجتماعية، وفى مواجهة ممارسات مفرطة فى القسوة والظلم القائمين على التمييز وفقًا للهوية الدينية أو الإثنية أو السياسية، أصبحت مجتمعات بكاملها فى العراء، لا حول لها ولا قوة، هدفًا لتنكيل جماعى متواصل لا سقف له. بلغ هذا التنكيل فى سوريا والعراق أقصاه، وذلك بالقصف الجماعى للمدنيين بالكيماوى أو بالطائرات أو بالمدفعية الثقيلة، وأخيرًا ببراميل البترول المتفجرة. لذا «كفرت» هذه المجتمعات الضحية بالدولة التى وصفوها «بالوطنية»، وصارت أولوياتها هى الإفلات من هذا الجحيم، إن لم يكن بالانتحار أو باللجوء والهروب الفردى، فبالبحث عن «منقذ»، عن المساندة والحماية من خارج «الدولة» التى لا تتجسد إلا فى صورة عصابات أمنية/ عسكرية تستبيح كل حياة. لم يعد السؤال من أين يأتى «جودو»؟ المهم أن يأتى، حتى ولو جاء فى صورة وهم يُبرد قليلًا من ويلات هذا «الهولوكست». سواء جاء من داخل المنطقة (إيران أو السعودية)، أو من خارجها (الأمم المتحدة أو حلف الأطلنطى)، أو حتى من جماعة إرهابية مثل «القاعدة» أو «داعش». هذا حال سوريا وليبيا العراق والسودان واليمن ولبنان، ودول أخرى على الطريق.

حينما يكتب التاريخ الحقيقى للعالم العربى، فإنه سيرصد كيف عانت هذه الشعوب ويلات المستعمر القديم فى النصف الأول من القرن العشرين، ثم حكومات الاستقلال «الوطنى» فى النصف الثانى منه، ثم عادت تتطلع إلى بعض «المستعمرين» الجدد مع بداية القرن الجديد، من خلال الغزو الأمريكى للعراق وما تداعى حوله من أوهام. ثم أخيرًا، انتقلت قطاعات واسعة من السنة فى العراق وسوريا لتجد فى تنظيم «القاعدة» أو «داعش» المنقذ من المظالم الهائلة التى تسحقها كل يوم. بينما تتطلع قطاعات من الشيعة فى البحرين والسعودية واليمن ولبنان وسوريا والعرق إلى إيران، من أجل نقاذها من ويلات سحق هويتها، وتتطلع قطاعات أخرى منها ـ سنية وشيعية- إلى تكريس وضع استعلائى أو تمييزى أو احتكارى للسلطة والثروة والنفوذ على حساب طوائف أو إثنيات أخرى. بينما ما زالت بعض الأقليات الطائفية والإثنية الأضعف، تتطلع إلى المستعمر القديم، أو أى منقذ أو مستعمر آخر ولو جاء من «المريخ». فقدت «الأغلبيات» قبل الأقليات كل أمل فى «الإنسانية» قبل رشادة نظم الحكم فى بلادها. هذا ليس ثمرة «الربيع العربى»، ولكنه بعض من ثمار حكم النخب الأمنية والعسكرية للعالم العربى المتواصل منذ أكثر من نصف قرن.

فى حوار له مع «سى إن إن»، قال عبد الله الثانى ملك الأردن، إن الرئيس السورى بشار الأسد تجنب ضرب «داعش» منذ البداية، بينما واصل ضرب فصائل المعارضة الأخرى الأقل تطرفًا، وكذلك تلك غير الإسلامية. فسر الملك توجهات النظام السورى بالحرص الاستراتيجى على الإبقاء على من يبدو «أسوأ» وأكثر شرًا، الأمر الذى قد يساعد على تخفيف الضغوط الدولية عليه، بل قد يؤدى ذلك لإعادة النظر فى المطالبة بإقصاء الأسد، وقد يجد له دورًا فى إطار حل ما مستقبلى للمعضلة السورية. غير أن متابعة جبهات الحرب الأهلية الجارية فى سوريا تبرهن على أن «داعش» قد توصلت أيضا إلى أن ذلك يحقق مصالحها، ولذا فإنها تجنبت مواجهة الأسد عسكريًا، وكرست كل جهدها الحربى تجاه الأطراف ذاتها التى تشكل الهدف العسكرى والسياسى الرئيسى للأسد، «توأمها».

الاتهام الذى وجهه ملك الأردن إلى الأسد، يصعب حصره به فقط، فهو ينطبق على كثيرين يصعب تصور استمرارهم فى الحكم والقمع زمنًا طويلًا إذا اختفى «التوأم»، أى الطرف «الأكثر شرًا وقبحًا». كان على عبد الله صالح رئيس اليمن السابق من أبرز قيادات النخب الأمنية العسكرية الحاكمة فى العالم العربى التى أدركت ذلك مبكرًا. لقد ساعد الولايات المتحدة الأمريكية كثيرًا فى مواجهة تنظيم «القاعدة» فى اليمن، ولكن ليس للقضاء عليها بشكل تام. الحكم الحالى فى مصر يحتاج أيضًا، لأن يبرهن على أن الإرهاب هو الخطر الرئيسى الذى يواجهه، وليس القوى المجتمعية المعادية للتطرف والإرهاب هى الأخطر. تزايد أعداد ضحايا الإرهاب من المدنيين والشرطة والعسكريين هو مؤشر على أن الإرهاب لا يجد ردًا مكافئًا يتناسب مع خطورته، خاصةً فى ظل التزايد المطرد فى عدد ضحايا أعمال القبض والمحاكمات المسيسة وغير العادلة، من النشطاء السياسيين السلميين، إسلاميين وعلمانيين، الذى يقدر عددهم بعشرات الآلاف.

ذلك الاحتياج الوجودى «التوأمى» المتلازم بين نظام الأسد و«داعش» لوجود كل منهما لا يحول بالطبع دون، بل يتطلب، أن يتواصل الخطاب الإعلامى العدائى المتبادل بين الطرفين، والذى يتعامل مع الطرف الآخر باعتباره العدو الرئيسى، بل الأخطر. ولكن خلف دخان الخطاب الإعلامى الاستئصالى المتبادل، يقوم الطرفان –أى «داعش» والنخبة الأمنية العسكرية الحاكمة فى سوريا، بتقديم الدعم الحيوى المتبادل لماكينتيهما الحربية، بما فى ذلك براميل الأسد البترولية المتفجرة. حيث تبيع «داعش» إلى الحكومة السورية البترول، الذى استولت على آباره فى المناطق التى سيطرت عليها، بأسعار أرخص من السوق العالمية، مقابل الحصول على الأموال اللازمة لشراء مستلزمات حيوية أخرى لماكينتها الحربية.

لأسباب مختلفة، أفلتت المغرب وتونس حتى الآن من هذه السيناريوهات الصفرية. فقد بدأت النخبة الحاكمة والمعارضة فى المغرب مبكرًا، فى نهاية تسعينيات القرن الماضى، عملية ترميم وإعادة تأهيل سياسية ومجتمعية شاملة لماضى المغرب الذى لا يقل قسوة. لولا ذلك لربما كان المغرب يعانى نفس ويلات المسار السورى أو العراقى. بينما أفلتت الانتفاضة التونسية من المصير المصرى الحزين، بفضل تواضع الطموح السياسى لنخبتها العسكرية ومهنيتها، وديناميكية مجتمعها المدنى المفتوح على المجال السياسى والنقابى، وانفتاح وبراجماتية قيادة حركة «النهضة» الإسلامية. الأمر الذى ساعدها فى الوقت المناسب، على استيعاب دروس السقوط السياسى المروع للإخوان المسلمين فى مصر.

عندما اندلعت الانتفاضة فى سوريا فى عام ٢٠١١، بادر بشار الأسد بالإفراج عن عدد كبير من قيادات التطرف الدينى والإرهاب، بهدف جر الانتفاضة إلى الفوضى والتطرف والعنف. فى مصر أيضا، لم تطالب رموز «الربيع العربى» بالإفراج عن القيادات الإرهابية من السجون بعد انتفاضة ٢٥ يناير، بل بادر بالإفراج عنهم بعد شهور محدودة من الانتفاضة المجلس العسكرى الذى تولى الحكم بعد تنحى الرئيس السابق حسنى مبارك. جرت الإفراجات ـ التى لم يُقدم لها تبرير رسمى حتى الآن ـ بينما كانت مظاهرات أكثر الجماعات الإسلامية تطرفًا تحتل «ميدان التحرير»، مناديةً بتعيين رئيس المجلس العسكرى «أميرًا» للبلاد! بعد الإفراج عنهم انتقلت أغلب تلك القيادات إلى سيناء، بينما بدأت قيادات المجلس العسكرى الحاكم– بتواطؤ من جماعة الإخوان المسلمين، أكبر حملة تشهير بحركة «٦ إبريل» الليبرالية، تبعتها ببقية النشطاء العلمانيين، ثم تلتها بمواجهات عنيفة فى شوارع وميادين القاهرة لتجمعات قبطية ولنشطاء غير إسلاميين. قبل أن ينتهى العام ٢٠١١، كانت قد توجته بحملة مداهمات عسكرية غير مسبوقة لمقار عدد من منظمات حقوق الإنسان المصرية والدولية. بعد نحو ٧ شهور شنت الجماعات الإرهابية أول هجوم كبير لها فى سيناء فى ٧ أغسطس ٢٠١٢، قتلت فيه ١٦ جنديًا مصريًا واختطفت عربتين مدرعتين. خلال العامين التاليين تصاعدت أعمال العنف والانتقام السياسى فى أغلب المدن المصرية، وكذا الهجمات الإرهابية فى سيناء، فى الوقت نفسه الذى قامت فيه السلطات الأمنية ودوائرها الإعلامية والقضائية بتصعيد هجومها على النشطاء الشباب، إسلاميين وعلمانيين، ثم على منظمات حقوق الإنسان المستقلة، إلى مستوى لم تعرفه من قبل منظمات حقوق الإنسان منذ نشأتها فى مصر منذ ثلاثة عقود. هناك اختلافات عميقة للغاية بين المشهد السياسى فى سوريا ومصر، ولكن المتشابهات واضحة لمن يملك نعمة النظر.

لم تكن تلك الفوضى من صنيعة «الربيع العربى»، بل بالأحرى هو ولد فى قلبها. ولد فى دول لم يبق من بعضها سوى اسمها، وعلم مرفوع على أطلالها بأذرع ما بقى من نخبها الأمنية/ العسكرية الفاسدة، بينما ملايين «السكان» يهيمون على وجوههم بحثًا عن «مسكن» آخر، حتى لو كان قبرًا فى أعماق البحر الأبيض المتوسط.

فى مسرحية صمويل بيكيت «العبثية» لا يأتى «جودو» أبدًا رغم طول انتظاره. بينما فى «الواقع» العربى –الأكثر عبثية مما دار بخيال بيكيت، يأتى «جودو»، ولكنه يجد فى انتظاره النخب الأمنية العسكرية ذاتها، مصحوبةً بتوأمها، أى جيوش جماعات التطرف الدينى والإرهاب التى ترعرعت فى أحضان هذه النخب.

*مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية