قبل عدة سنوات سبقت عام ٢٠١١.. جاء إعلان- ظَاهِرُهُ الجدية وباطِنُهُ فيه الإلهاء- عن توجه للدولة بشأن إنشاء أودية للتكنولوجيا على غرار «سيليكون فالى» فى الولايات المتحدة.. ليكون نواة لالتحاق مصر بقطار العالم فى صناعة تكنولوجيا المعلومات!
دارت عجلة «إعلام النظام» حينها- وفى كل حين- لتزف البشرى بأن مصر تخترق عالم صناعات العصر!
ودارت العجلة الأهم.. وهى عجلة توزيع الأراضى على بعض مماليك النظام حينها.. لينفَضَّ المولد بعد أن سَكَنَ الشعب بعنوان جديد يُلهى.. والأهم بعد أن سُكِّنَ المماليك فى موقع أعلى من مواقع السلطة والثروة!
الشاهد الأهم فى تلك الرواية أن أحد أبرز مماليك النظام حينها- وفى كل حين- يُعلن على صفحات كاملة فى الجرائد القومية.. بعد عبارات مبايعته للقائد والثناءِ على حكمته.. والإشادةِ بحب الوطن الذى يتجسد فى زعامته.. بإعلان نصُهُ «وادى (..….) للتكنولوجيا … مطلوب مخترعين»!
جاء الإعلان هكذا نصاً.. آه والله.. ولا عزاء للعقلاء!!
فات الرجل وهو يُكمل البهلوانية السياسية لرئيسه ونظامه الذى بيت «الاختراعات» سبيلاً للتدليس العام.. أن الاختراع والإبداع ليسا مهنة ولا وظيفة ولا تخصصاً علمياً له جامعاته أو معاهده.. ولكن أمانة «التدليس» لديه.. وإخلاصه فى الاضطلاع «بواجب النفاق الوطنى» لرب ثروته وسلطته.. اقتضت أن يبحث عن خريجى «المعهد العالى للمخترعين»!!
قد لا يكون هناك من جديد فى سِيَرِ فساد مماليك «النظام» الأسبق أو «التنظيم» الذى تلاه.. وإهانتهم لكل القيم، بما فيها قيمة الإبداع ذاته.. وإلا لماذا كانت ثورتا ٢٠١١ و٢٠١٣.. ولكن الجديد والأكيد.. أن مصر تحتاج الإبداع بقدر احتياجها للخبز والطاقة..أو فى الحقيقة قبل احتياجها للخبز والطاقة!
لأن مصر.. بإرث فساد ثقيل.. على وشك أن تختنق تحت أقدام الرتابة وفقر الخيال ومجافاة «البيروقراطية» للعلم والعقل!
مصر فى صحراء «التيه» الاقتصادى والاجتماعى والسياسى منذ قرابة الخمسين سنة.. بلا موارد تبقت، إلا ما يتبقى لتائه الصحراء من عقل وخيال وإبداع قد يوجد فيه لنفسه قطرات ماء تحييه من عدم الصحراء!
حين نتحدث عن الإبداع.. فمرة أخرى لسنا فقط بصدد الحديث عن الأدب والفن والعمارة.. والتى هى درة الإبداع وشواهد التفرد فيه.. ولكنى
أتحدث عن إبداع «واجب» ينقذ «الزراعة» من أجل أمن الغذاء للمصريين!
أتحدث عن إبداع «غائب».. آن له أن يحضر لينتشل المصريين من لا جدوى «الخدمات العامة» والحكومية.. التى تستنزف ما تبقى من دقائق معدودة يمكن أن يشاركوا بها فى العمل والإنتاج!
أتحدث عن إبداع «نأثم بغيره» فى قراءتنا «لواقعنا الإقليمى والدولى».. وإدارتنا لملفاتنا الدولية والإقليمية.. ليس بأقلها وإن كان بأكثرها إلحاحاً.. أمننا المائى وأمن النيل وهو شريان البقاء لهذا الوطن!و ليس بأقل أهمية منه استعادتنا لريادة واجبة هى مناط بقائنا.. ريادتنا «لإقليم» و«قارة» تغيرا بالكلية عقلاً وعقيدة وموارد وبشراً ومصالحاً.. إقليمُ تاريخه فى النصرة والخذلان وصون العهود «كربلاء ممتدة».. وسيوفُ أهلِه غالباً على من قلوبهم معه.. وقارةُ باتت تتذكر تنكرنا لها.. أكثر من تذكرها مواقفنا من أجلها!
أتحدث عن إبداع مفقود بالكلية فى فهمنا لدور الدولة و«السياسة».. وإصرار على الإبقاء على نموذج دولة «الكفالة والوصاية».. فى عصر لا مكان للوصاية فيه من دولة على مواطنيها إلا بقدر شراكتهم فى ملكيتها وتساويهم فى المواطنة فيها وإقرارهم بولاية ومنطقية وعدل قانونها عليهم!
أتحدث عن إبداع لا يؤبه له.. غيابه يقتل المصريين أنفسهم قبل أن يقتل اقتصادهم.. وهو إبداع «منظومة للنقل» على خريطة وطن ما زالت شرايين الانتقال فيه على معايير أمان القرن التاسع عشر.. وإن تجاوز بوسائل واحتياجات انتقاله القرن الواحد والعشرين!
أتحدث عن إبداع فى قراءة التغيير العميق الذى حدث فى «عقل المجتمع ووجدانه».. لنعرف أى بشرٍ كُنا.. وأى أناسٍ أصبحنا!
أتحدث عن إبداع فى فهم «مقاصد الله من الدين».. والكف عن محاربة الله ذاته باسم الانتصار لدينه!! ليس فقط من المتنطعة.. ولكن من عقلاء غاب عنهم فقه عصر يعيشونه.. ففقهوا الدين بعقول من عاشوه منذ ألف سنة أو تزيد!
أتحدث عن إبداع فى قضية «التعليم» والتى هى ليست بالضرورة بناء مدارس جديدة أو تأهيل مدرس وكفى.. ولكن فى غايات التعليم ذاته.. ينقذنا من الانحدار من مصاف البشر إلى كائنات ممسوخة مدمرة لنفسها وغيرها!
أتحدث عن إبداع فى مجال «الصحة والوعى الصحى».. ينقذنا من السقوط صرعى أمراض، نحن نصنعها بالجهل والفساد لتورثنا الفقر والمذلة وتبعية الأمم!
أتحدث عن إبداع يعيننا على بناء «معانٍ» قبل أن نبنى مبانى للتعليم والصحة والسياسة والاقتصاد!
لأننا بعد أن حَصَرنَا فكرُنا الملحد فى كل ملموس ومشاهد.. لم يكن لنا حظ من إصلاح إلا فى بناء المرافق والمبانى فاقدة الهوية.. على مدار ثلاثين سنة.. أغلبها لا منطق لها ولا ذوق فيها ولا وظيفة تتحقق منها.. إلا إبراء ذمة أصحاب السلطة أو إقامة الحجة على المجتمع بعناوين وإحصائيات!
ولهذا لا غرابة أن فى مصر ٢٠١٥ تكاد تكون كل المبانى العامة والخاصة.. مبانى بلا معانٍ.. لا تنتمى فى عمومها الغالب من حيث التصميم الوظيفى- قبل الذوق- إلى منطق أو روح العصر الحالى أو روح عصر ما.. أو إلى احتياجات مجتمع.. ولا غرابة ألا نجد مدينة واحدة تنتمى من حيث التخطيط بالحد الأدنى من الإقرار بأن قاطنيها هم بشر ينتمون للقرن الواحد والعشرين أو حتى العشرين!
ولكن الغرابة أن مصر ١٩١٥ كان فيها كل هذا، ذوقاً وتخطيطاً ووظائف.. مصر ١٩١٥ والتى كانت تحبو خطوات التنوير الأولى.. كانت تبحث عن معانى التعليم ومعانى الفكر ومعانى السياسة ومعانى الاقتصاد.. فقادتها نخبة تنويرها- لا بيروقراطيتها- نحو مشارف نجاة وإن لم يغب عن مشهدها الكيد السياسى وحب السلطة!
ولهذا أتى «برلمان» كان العقاد وفكرى أباظة ومصطفى النحاس هم رموزه..
وأتى زمان كان طه حسين هو وزير معارفه..
وأتى «أزهر» على رأسه المراغى ومن أبنائه على عبدالرازق ومفتيه الإمام محمد عبده..
وأتت دولة لتجد فى لحظة انكسارها نموذجاً للوعى والجدية والنبوغ العسكرى كالفريق عبدالمنعم رياض.. الجنرال الفذ.. لتعتذر به لنفسها عن تفريط شديد كاد أن يذهب بشرفها بالكلية وفقا لتعبيره!
مصر ٢٠١٥ قادرة على استعادة خطواتها الأولى نحو إبداع فيه بقاؤها.. ولا بقاء لها بغيره.. إذا أصرت على التنوير.. وأثَّمت ثقافة المماليك فاقدى الخيال.. غير فاقدى الاحتيال.. وحمت مستقبلها من تصدرهم له.. وهم الذى أهانوا كل قيمة تبنيه!
مصر ٢٠١٥ ستملك ناصية الإبداع فكراً وعلماً وفناً حين تعلن لنفسها أنه لن يكون «إبداع» بغير وجدان حالم وخيال لا سقف له.. والذى هو ملك لأصحابه معاناة ومجداً.. لا يؤمم ولا يؤمر به ولا يصادر مجده!
مصر ٢٠١٥ ستحمى بقاءها بالإبداع وليس بغيره.. حين تقول لكل من يتوهمون مصادرة الفكر بدعوى إدارته.. إنك لا تستطيع أن تأمر عقلا بفكر ولا بخيال.. ولكن فقط تستطيع أن تكف أذاك عنه.. وأن تضمن له ألا يؤثم فى حرية إعمال عقله.. وألا تبتذل قيمته على أعتاب سلطة أو زعماء!
الإبداع لا يُنتَحَل.. وإذا انتُحِلَ يصير مسخاً.. لأن الإبداع حقيقة..
مصر ستصنع حقيقة مستقبلها.. حين تُحرر «عقل الإبداع» من قبضة «عقل الإيداع على سركى البيروقراطية».. وتلك مسؤوليتنا جميعاً!
فَكِّرُوا تَصِحِّوا..