(1)
رنّ هاتف سائق التاكسي برقم لا يعرفه، كان واحداً من الأصدقاء الذين حال الزمن وانشغال البال دون أن تستمر لقاءات السمر والنميمة المحببة إلى رجل أوشك على مجاوزة الستين. فجأة تهدّج صوت السائق، اختنق بالدموع حين ردد أن صاحب العمل استغنى عن خدماته. حدقت فيه، فلمحت عكازاً يضعه على يسار المقعد. انتهت المكالمة بوعد على لقاء قريب لن يتم في الأغلب، مجرّد تمنيات لحظية يشغل بها المتصلون بعضهم البعض لكيلا يشعروا بتأنيب الضمير.
بدأ الرجل في الحكي، لدى السائقين غرام بالكلام، يزجي الوقت، يتطهّر من الهموم، البوح يمنحه القدرة على إكمال اليوم الطويل جالساً في مقعد واحد يبحث عمن يمنحه الجنيهات. قال لي إنّه في يوم كان صديقه الذي أصبح رئيسه في العمل يطلب منه شراء نوع معيّن من الشيكولاته من سوبر ماركت شهير في شارع جامعة الدول العربية، ركن السيارة، عبر الطريق المكتظ بالسيارات، شرد الذهن لحظات، طار في الهواء، سقط، رقد في الفراش بمستشفى الهلال لعامين لا يعرف حدوداً للعالم إلا الغرفة الضيقة التي بدأت بازدحام الزيارات واقتصرت بعد ذلك على الزوجة والأبناء؟.. انشغلوا كلٌّ في عالمه. تكسّرت عظام الرجل في العملية، وتكسّر هو معها، حيث استغنى هو صاحب العمل لعدم قدرته على العمل بالكفاءة السابقة، اشترى تاكسي، وعاش في قوقعة استمرار الحياة، لأنّه لا يملك خياراً آخر. يتذمّر، يحلم أن يسدد أقساط التاكسي، يكرر عبارات الحمد لله بين الحين والآخر.
سألته: «مفكرتش تموّت نفسك وإنت في المستشفى؟» فأجابني إن العجز وحده الكفيل بأن يذهب للتفكير في الرحيل، وطالما اقتصر الأمر على عكاز وسيارة لا تجعله يسأل الناس فإن الحياة تهون.
(2)
في أجواء تلفك غلالة رمادية من البخور والإضاءة الهادئة المتناسبة مع ديكور البار المصمم لتقديم عرض «روح» في مسرح الطليعة عن نص «الوردة والتاج» للكاتب الإنجليزي «جي. بي. بريستلي»، تباغتك التيمة التي سبق تناولها في أعمال متباينة «ماذا لو حلمت بالموت وجاءك يطلبك؟». هذه المسرحية تقول إننا نتحدّث عن كراهيتنا للحياة ونتمنى مغادرتها، لكن في إطار الثرثرة، لا في حيز التنفيذ. المسرحية أبطالها: عجوز حاولت أن تصل للحب بالزواج من رجلين، سيدة لم تدرك أن العمر تقدّم وشاخ الوجه والصوت، سباك تركه الأبناء يقارع الوحدة، شابان متزوجان حديثاً، والبارمان، والشاب الذي يحب الحياة رغم عدم الزواج ممن أحب ورغم المرض. هذا الشاب الذي يقوم بأداء شخصيته النجم الصاعد بقوة الصاروخ محمد عادل، يؤكد أن السعادة تكمن أحياناً في التفاصيل وليس فقط الشيطان. تتقابل الشخصيات التي تؤدي دورها ببراعة في البار، يحكي الكل عن قسوة الحياة والرغبة الحقيقية في مغادرتها، تمضي المسرحية بحوار بفصحى رصينة، تحاكي النص المترجم، فقط يعيب المعالجة ضعف الحوار، لاسيما في الدقائق الأولى من المسرحية العامرة بالدراما.
يظهر «الغريب» المتّشح بالسواد، الذي يقول في غموض إن زوار البار عليهم أن يختاروا من يغادر الحياة، تنشب بينهم معركة الرغبة في البقاء، أنت أثناء العرض تصبح جزءًا منه، لاسيما مع الأبطال الذين يتحركون من حولك، يدور بخلدك: «ماذا لو جاءني ملك الموت؟.. هل هناك من يستحق أن أفني عمري من أجله؟.. ما جدوى الحياة؟». مونولوج لكل من الأبطال يحلم بمستقبل عامر بالحياة، حتى يفضّل صاحب الوجه البشوش الإيثار بالرحيل، ترسيخاً لمبدأ أن النبلاء يموتون، وأكثر الناس قدرة على الحياة أكثرهم قدرة على الموت.
المشهد الأخير من المسرحية إعادة للمشهد الأول، يريد المخرج أن يؤكد ما قاله يوسف إدريس بأن التعوّد كالزمن يقتل الأشياء، وكل الأبطال الذين تنطّعوا أمام «الغريب» بالرغبة في التغيير كان ذلك مجرّد كلام في الهواء. لو عاش نجيب محفوظ، لقال إن آفة حارتنا الكلام، وليس النسيان.
(3)
«هل تعتقد أن الأطباء يقومون بدور الرب في جميع الأوقات؟»
«بالطبع، كل مرة تتدخل في عملية طبيعية فأنت تلعب دور الرب»
كانت هذه الإجابة من جاك كيفوركيان، الطبيب والعازف، الذي سُجن في أمريكا عدّة سنوات، لأنّه قرر أن يساعد الأشخاص على الموت، حيث صمم جهازاً خاصاً للانتحار أسماه «آلة الرحمة»، يتيح للمرضى الذين يعانون من أمراض مزمنة فرصة التخلص من حياتهم المؤلمة بلا ألم؛ عن طريق تنقيط ثلاثة محاليل كيميائية في أوردتهم، مدعياً أن الموت لا يعد جريمة. مات على يديه نحو 130 فرداً. قوبل جاك بعاصفة من الهجوم في البدء، قبل أن يقنع الناس بأفكاره التي طوّعها محامٍ يُجيد اللعب بالقانون والقضايا. مات «جاك» وقدّم شخصيته النجم آل باتشينو في فيلمه «you don't know jack».. «أنت لا تعرف جاك» ليقول إن الموت رغم كونه الهاجس الأكبر بالنسبة للبشرية الطامحة في الخلود إلا أن هناك من يرغبون في الذهاب إليه، لأن الحياة لم تعد تسعهم.
(4)
أصدرت الأمم المتحدة وثيقة بها عدد من الأرقام الرسمية الخطيرة التي تقول إن أكثر من 800 ألف فرد ينتحرون كل عام، وأن هناك حالة انتحار تحدث كل 40 ثانية. وأن حالات الانتحار منتشرة في الفئة العمرية من 15 إلى 29 سنة. وأن 75% من معدلات الانتحار تحدث في البلاد متوسطة الدخول. و25% في الدول ذات الدخل المرتفع للغاية.
في مصر هناك نحو 1.5 مليون مصاب بالاكتئاب الحاد، في حين أن الإحصاءات العلمية تؤكد أن 15% من هؤلاء المصابين بالاكتئاب الحاد يلجأون إلى الانتحار للتخلص من معاناة هذا المرض.
(5)
يقول الكاتب إميل سيوران: «لا ينتحر إلا المتفائلون، المتفائلون الذين لم يعودوا قادرين على الاستمرار في التفاؤل. أما الآخرون، فلماذا يكون لهم مبرر للموت وهم لا يملكون مبررًا للحياة؟»
في سير الأدباء، تقابل إرنست هيمنجواي الأمريكي الذي حصد نوبل، ودافع عن قدرات عقل الإنسان في أعماله، قرر في ليلة أن يجلب مسدسًا ويطلق النيران على رأسه منهياً ما تبقى من عمره بكبسة زر، ومنذ عدّة أسابيع انتحر أحد أهم الكُتّاب في هولندا ويُدعى يوست زفاخرمان، ويبلغ من العمر 51 عاماً، وقد قال قبل رحيله: «ماذا بقي لأنهض من أجله في هذا العالم؟».
فيرجينا وولف هي الأخرى كان لها نصيب من التخلّص من حياتها، كانت تعيش حياة هانئة مع زوجها الذي تحبّه، لولا ذلك الطنين وقصة حياتها، أو بالأحرى انتحارها، تم نقله بشكل مدهش في فيلم «hours» ومن رسالة فيرجينا وولف إلى زوجها عندما قررت الانتحار «لقد بدأت أسمع أصواتًا وفقدت قدرتي على التركيز. لذا، سأفعل ما أراه مناسبًا. لقد أشعرتني بسعادة عظيمة ولا أظن أن أي أحد قد شعر بسعادة غامرة كما شعرنا نحن الاثنين سويًّا إلى أن حلّ بي هذا المرض الفظيع».
(6)
مجتمعنا لا يوطأ لمعنى الحياة أن يذيع في ربوع الأرض، لا يعيش الطفل طفولته لأن أباً يحشر في دماغه العلم في حضانات تقنع الأب بأن أمواله مستثمرة في فلذة الكبد، يكبر الطفل لا يعيش حياته كما من المفترض أن تكون، سوف يمتلك هاتفاً ذكياً وهو لم يصل للعاشرة بعد، ليفقد الكثير من المعاني في مراحل نموه المختلفة، سيصبح هؤلاء الأطفال في الأغلب من الذين يفضلون زاب ثروت على مدحت صالح، وسوف يتصورون سيلفي بجوار الكعبة، نحن كذلك جيل عاش تحت وطأة البحث عن كليات القمة، دون أن نعثر بداخلنا عما نرغب حقاً في أن نكونه، فقدان البوصلة التي تقيض لنا إدراك الأشياء من حولنا.
تحيرّني ثلاثية الموت والانتحار والحياة مهما صادفتني في أعمال أو بشر، ما بين الرغبة في الحياة رغم تقدّم العمر وهجر الأبناء ووهن الجسد، وما بين الإحساس بأن الحياة لم يعد لها المعنى اللازم للعيش.
أظن أن سبب الحياة يتعلّق بشخص تحبه، قضية تدافع عنها، أم تخجل أن ترحل قبلها، حب تعيش على ذكراه، رفقة تعينك على الاستمرار، شغف بشيء لا ينقطع، حرية تحلم بأن تسود، أو استمرار في الحياة عالة لا تضيف شيئاً وتخشى من الإقدام على تجربة تخليصك من روحك، لواعظ ديني أو لخوف بشري. هناك من تقابلهم أحياء يمشون كالأموات، ومن دُفنوا في قبورهم أحياء يُرزقون عند الأحبة بالسيرة العطرة، أو كما قيل «الناس موتى وأهل الحب أحياء». الحب من المعاني الأساسية لضمان استمرار الشعور بجدوى العيش في دنيا اختلطت فيها المفاهيم، وصارت المعاني البراقة تفقد رونقها.
مسرحية «روح» تقول إن غياب المعنى يفضي إلى فقدان الرغبة في الاستمرار في الحياة، وهي الحكمة التي يمكن أن تُعيد بها ترتيب حياتك لو أحسنت إدراكها.