x

صلاح فضل مكاوى سعيد فى روايته الضخمة «أن تحبك جيهان» صلاح فضل الخميس 08-10-2015 21:40


مكاوى سعيد مبدع مصرى أصيل، يناهز الستين من عمره، مزروع فى «وسط البلد» حتى ليزعم بروحه المرحة أنه قد توج ملكاً له، أثبت جدارته الفنية العالية بعدد من الكتب والمجموعات القصصية المضمخة بعطر المكان بلغت أوجها فى رواية «تغريدة البجعة» التى رسخت موقعه المتقدم على خارطة الإبداع، خرج علينا مؤخراً بمطولته الضخمة «أن تحبك جيهان» ليضرب رقماً قياسياً فى عدد الصفحات التى تربو على سبعمائة صفحة، وقد اجتهدت أن أتدبر لها وقتاً فى زحمة القراءات والشواغل، فاستمتعت بصحبتها وألفت أصواتها السردية الثلاثة جيهان والضوى وريم حتى أصبحوا أصدقائى، أكاد أتوقع خواطرهم وردودهم، وأخشى مفاجآت الأخيرة التى انضمت إليهم بعد منتصف الرواية بنزقها وجنونها وشقاوتها الأنثوية والفنية، وهذه درجة عالية من قدرة الإبداع على التمثيل الجمالى للحياة ومعايشتها، لكن الهاجس القلق الذى سيطر علىَّ أثناء القراءة هو اختبار مدى ضرورة هذا الحجم فى بنية العمل، كنت أطرد من ذهنى بيت المتبنى الشهير:

«أعيذها نظرات منك صادقة/ أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم»

فقد كان ينطق شعراً مكثفاً رشيقاً يختلف عن السرد الذى يقدم حيوات كاملة بشحمها وعظمها تغمرنا برذاذ الحياة المنعش وتبعث فينا نبضها الدافق، ولكنى لم أستطع استبعاد فكرة جوهرية تأملتها طويلاً فى مطلع حياتى النقدية وأنا أكتب عن مفهوم النموذج فى الإبداع، إذ يعنى هذا التصميم الهندسى المحكم لدور واحد يتكرر عشرات المرات فى البرج الشاهق - أن تدخل هذا الدور يغنيك عن أشباهه التى لن تختلف عنه سوى فى الألوان والوظائف، والارتفاعات. الغريب أنه بالرغم من هذا التطويل المستفز فإن رواية مكاوى لا تصيبك بالملل، بل تدهشك دائماً بمئات التفاصيل الشائقة والحركات اللافتة. أتقن صاحبنا تقديم الأصوات النسائية إلى حد كبير، خاصة فى علاقاتهن ببعضهن وما يغمرها من مزج المحبة بالغيرة والحساسية، إضافة إلى الرؤية المتنوعة لعالم الرجال، لكن النسيج الحريرى المرهف المتواشج لهذه الأصوات الناعمة يفتقد خشونة الصراع الدرامى فى الأحداث الصغيرة المتوالية المنبسطة، فليس بينهن نزاع على الرجال أو المال أو غيرهما، بل يتداولن السرد بالتوالى من نقطة رصد متقاربة. قد ترتبك قليلاً فى البداية عندما تحكى جيهان بصيغة المضارع بداية علاقتها بزوجها الراحل تميم، بعد أن تكون قد دفنته فى الفقرة السابقة، لكنها لا تلبث أن تلاحق الحكى دون قلق، محافظة على تناغمه الإيقاعى الجميل. ليس هناك حدث محورى تلهث الأصوات وراءه، بل هى عوالم متجاورة ومتحاورة تسبح فى أفلاكها الصغيرة، يمثل المكان فيها بؤرة التركيز كما تعود الكاتب. فحتى فى تقديمه للشخصيات يرصدها فى الموقع أساساً، ولابد أن يكون فى وسط البلد - مملكة مكاوى - حيث يحكى الضوى مثلاً عن ريم قائلاً: «أذكر مشاهدتى الأولى لها، كنت بمفردى فى فندق (أوديون) بوسط البلد الذى كنت أتردد عليه أحياناً رغبة فى التقرب من الكتّاب والسينمائيين الذين يترددون عليه، ومراقبة لهوهم وصخبهم ومشاكستهم، بسبب حنينى إلى الزمن الذى اصطحبنى فيه خالى (حسام) إلى أماكنهم باعتباره منتمياً أو محباً لهم، وقد عرفنى على هذا المكان فى أعوامه الأخيرة، وكنا نتشارك الشراب ونتسامر.. ولأن ريم أعجبتنى زاد معدل ترددى على المكان لعلى أراها، رأيتها مرات قليلة بمفردها أو بصحبة صديقتها (استيلا)، وبعض المرات محاطة بشلة من المثقفين غالبيتهم من صناع السينما والمسرح، مخرجون وكتّاب ومنتجون ومصورون، كانت بيضاء مشربة بحمرة ممشوقة القوام، ووجهها لافت جداً بالشامة الأسمهانية التى فوق جانب فمها، وبالسلاسل البلاتينية التى ترتديها حول ساقها كالخلخال». وقد أوردت هذا المقطع على طوله فى وصف شخصية ريم لأبرز الطابع التصويرى الغالب حيث تبدو معالم الشخصية فى إطار مكانها الثابت، لا زمنها المتغير ولا حياتها القلقة، لكن حيوية خيال الكاتب لا تسجنه فى هذا الإطار دوماً، فجيهان تقدم نفسها بشكل ديناميكى فعال، عقب افتتاحها معرض صورها قائلة: «عشرون نفساً كانوا فى هذا المكان بناءً على دعوتى، احتفالاً بانتهاء معرض صورى الفوتوغرافية.. أرتكب هذه الحماقات كثيراً، فعدد معارفى فى حياتى المهنية قليل، أدعوهم إلى منزلى بمعدل مرة كل ثلاثة أشهر، معرض أو اثنان وأنا آنسة، ومعرضان فى حياتى الزوجية التى دامت ثلاث سنوات، ومعرض آخر وأنا أرملة بخلاف هذه المرة، العشرون نفساً من الجنسين، الذكور منهم برفقة زوجاتهم اللائى صرن من المقربات لى أو يدعين ذلك، والنساء منهن زميلاتى من معهد السينما وبرفقتهن أزواجهن أو من على شاكلتهن». طريقة أخرى توجز بها جيهان مراحل حياتها المهنية والشخصية من منظور مبدعة ذات علاقات اجتماعية خصبة تحتل رقعة السرد العريضة بألوانها ومشاعرها وذبذبات عواطفها.

خبرات معتقة وطريفة:

نوعان من الخبرة نكتسبهما بقراءة الأعمال الإبداعية الكبرى على مهل، أولهما وأقربهما الخبرة الحيوية الساخنة بالعالم، مما يضاعف عشرات المرات أصدقاءنا ويمد فى أعمارنا ويعمق وعينا وتجاربنا، والنوع الثانى هو الخبرة الجمالية المرهفة بتقنيات الفن ولغته وأدوات تأثيره فى المتلقى إلى جانب فلسفته ورؤيته الكلية، وهذه أمور الصنعة التى يعرفها المختصون ويدركها القراء بحساسيتهم حسب درجة فطنتهم وتجربتهم. وقد يعمد النقد له شرح طرف منها وتقييمه. ورواية مكاوى حافلة بهذه الخبرات المعتقة والطريفة على السواء. فالنماذج التى يقدمها بعمق واستقصاء ويسقينا ماء وجهها ورحيق شخصيتها كفيلة بأن تثبت فى الذاكرة وتشتبك بما نعرف عن مثيلاتها فى حياتنا. أحمد الضوى مثلاً يتكلم عن خاله حسام اليسارى المتشنج المخلص المقرب إلى أخته بشدة، فيثير فينا شعور الحدب والإشفاق للكثيرين من أحبابنا الذين يشبهونه، فقد كان معمارياً عمل بعد تخرجه فى إحدى شركات القطاع العام، وعانى كثيراً فى المعتقل حتى أصيب بمرض نفسى «وصار لخالى نوبات عنيفة تستدعى نقله للمستشفى»، ثم لا يلبث أن يسترد عافيته وإيقاع حياته. اللافت للنظر أن الراوى بعد دخول عصر الانفتاح كان يعمل فى شركة خاصة، واقترن بالزواج من جليلة، سكرتيرة صاحب الشركة، فوسّطها كى ينتقل خاله مستشاراً معمارياً للشركة بسابقة خبرته، وقدمت طلباً فيه سيرة ذاتية موجزة لم يلبث أن اعتمده رئيس مجلس الإدارة على الفور مخصصاً له راتباً شهرياً خيالياً، وبدلاً من أن يشكره خاله إذا به ينفجر فى وجهه متهماً له بالعمالة للرأسماليين الجدد لتجنيده وتلويث تاريخه النضالى المشهود. الطريف أنه بعد أن رحل هذا الخال اليسارى حل مكانه فى الشقة المواجهة لمسكن الراوى رفيق آخر مخضرم من ذات الفئة، تخدمه مطلقته بحنو بالغ، بما يكشف عن العرق الإنسانى النبيل المتجذر فى بعض هؤلاء الأيديولوجيين العتاة الذين استعصوا على التحولات وثبتوا على مبادئهم المثالية. نموذج آخر بالغ الطرافة يحكيه الضوى أيضاً عن مزرعة نموذجية دعته إليها صديقته ريم لرجل أعمال مثقف، امتلك مئات الأفدنة وقام بزراعتها بشكل يخلو من الأسمدة والمخصبات الكيماوية كى تكون «أورجانيك» أطلق على منتجاتها اسم «سيكم» وهو اسم مصرى قديم معناه الدواء، وهو يدين لمبادئ حركة فلسفية أوروبية تقدس الطبيعة وتضفى عليها أبعاداً أنثروبولوجية صوفية، وكان صاحب المزرعة قد درس فى ألمانيا وأنشأ مجموعة اقتصادية متكاملة فى مصر يوزع إنتاجها المتميز فى أوروبا بدقة متناهية، إضافة إلى شغفه بالموسيقى الكلاسيكية، وهناك فى هذه المزرعة العجيبة يتعرف الراوى على نموذج ناجح لبعض جوانب الحياة المصرية المفعمة بالتناقضات تظل تلمع فى ذاكرتنا أمداً طويلاً.

عوالم التشكيل والسياسة:

بيد أن الخبرة العظمى التى تغمر الروح بالجمال والتناغم فى هذه الرواية - تنبثق من عالم الفن التشكيلى فى التصوير والنحت الذى يتراءى من خلال صوت جيهان مصورة السينما المحترفة وزوجها الراحل النحات الطموح تميم، وما أحاط به من دنيا الفن وأسمائه الواقعية، ويكفى نموذجاً لذلك تجربة تميم - كما ترويها جيهان - فى تحويل أحد الفنادق الكبرى فى القاهرة إلى تحفة فنية تزخر بالقطع البديعة «كل طابق به منحوتة من الخزف أو البازلت أو الحد من تصميمه، وبعضها قطع كبيرة من أهم الأعمال الفنية لكبار المبدعين مثل عبدالهادى الوشاحى وآدم حنين وجميل شفيق، وزين الجدران بلوحات استعارها من عادل السيوى وصلاح عنانى ومحمد عبلة وآخرين. الطوابق المسماة بأسماء الأحجار الكريمة استخدم تميم أحجارها منقاراً لطائر أو عِيناً مشكلة بمهارة من الحديد أو البازلت أو الرخام، كما صنع طاووساً بديعاً امتلأ جسده وريشه بأثمن الحجارة. وأعمق من ذلك ما بثته الرواية من أفكار ورؤى جمالية على لسان جيهان، إذ تقارن مثلاً بين التصوير والرسم، فترى أن الموت الأول للرسم حدث عند اختراع الطباعة، والثانى عند اختراع الكاميرا التى طرحت سؤالاً مهماً عن ضرورة الفنان، ثم حدث تصالح أخير بين الرسم والتصوير، وكذلك فى سياقات طبيعية عن فلسفة الفنون وكيف أن المنحوتات العملاقة كانت نتاج ثقافة الاستقرار وهى مختلفة عن ثقافة الترحال التى ينتجها البدو ويضطرون لحملها معهم خلال انتقالهم المكانى كالمتاع الذى يحملونه فى ذواكرهم ويقومون بتخزينه فى نصوص شعرية وسردية، وهذا قد رسب فى عقولهم كراهية التجسيد لأنه دليل على الاستقرار الذى لم يشهدوه. و«لعل هذا هو السبب فى أن الحضارة الفرعونية اكتفت بالمنحوتات العملاقة ولم تهتم بالنصوص إلا ما سجل عليها» ولا تأتى هذه البيانات الجمالية على شكل خواطر وتأملات للشخوص فحسب، بل تنساب فى عروق الأحداث وتشكل بعض تفسيراتها المفصلية، فعندما أصيب تميم فى انتكاسته النفسية عاقب روحه لا شعورياً بنوع من الشلل فى يديه. وتروى جيهان أن الوشاحى الذى كان معلمه وأستاذه

- وقد استغرق ذكره مساحة حيوية فى السرد - حاول التخفيف عنها بقوله إن ليوناردو دافينشى العظيم عندما أصيب فى يده تفرغ للاختراع وترك للإنسانية مخترعات مذهلة، والنحات مختار أصيب أيضاً فى يده، وأكثر من ذلك عندما ينتاب جيهان كابوس ثقيل وهى تعد فيلماً تسجيلياً عن الوشاحى تختلط فى مخيلتها إبداعات زوجها بغيرته عليها بشكل تلقائى عميق، ولا مجال فى هذا السياق لذكر أهم الأحداث والخبرات التى تزخر بها الرواية مثل لوثة ريم التمثيلية المتخيلة وشروعها فى قتل أختها التى تقدم استعراضات عارية وزوجها فى جنيف، وما فعلته بشكل فضائحى فى شقة معشوقها الضوى قبل هجره، لكن العرق السياسى لم ينفر فى الرواية سوى فى صفحاتها الأخيرة حيث خصصت لميدان التحرير

- سرة وسط البلد - وأصبح الضوى خطاط الثورة، وصديقه الضابط الكبير عماد الذى مثل طيلة الرواية بطش سلطة الشرطة وقدرتها على النفع والضر والقمع دور من يتحول بين عشية وضحاها من الشخصية المهيبة إلى عدو الشعب. آثر الكاتب أن يتوج وسط البلد بثورة يناير ويذيب فى أحضانه الأصوات والحيوات التى نفخ فيها الروح خلال الرواية لتنسكب فى إيقاع الثورة لحناً تاريخياً يجسد ملامح مصر وينطق بأشواقها للحرية والكرامة، ولكن مئات الصفحات التى سبقت هذه النهاية المتوهجة بالثورة لا تنبعث منها شرارات الحرائق الكامنة المكبوتة تحت سطح الحياة الروتينية للرجال والنساء بإيقاعها اليومى الرتيب، حيث كانت تغوص فى أشواق فردية ونزوات شخصية دون أن تنبئ بشىء عن هذا البركان الخامد تحت شوارعها والذى ينفجر فجأة ليُسقط ضوءاً غامراً على الماضى وتغيراته المصيرية فى مستقبل الوطن.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية