ترددت قليلا قبل أن أسطر هذه الكلمات فى ذكرى ميلاده، فعصام حسونة والدى وصديقى ومثلى الأعلى قد غرس فينا، نحن بناته، طيلة حياتنا أنه من الصغائر أن نباهى بما حققه فى عمله أو بالمراكز الرفيعة التى احتلها عن جدارة طوال حياته نظرا لتفانيه فى خدمة وطنه ولكننى أشعر اليوم أن من واجبى تجاهه كأب نادر المثال طبق فى حياته العامة، قبل الخاصة، كل ما كان يؤمن به من مثل رفيعة وقيم سامية أن أحاول أن أوفيه حقه مما لم أستطع أن أقوله عنه علانية وهو بيننا.
لقد كان والدى العزيز من أطيب الناس طرا وأصفاهم نفسا وأرشدهم عقلا فكان يؤمن باحترام آراء الآخرين على اختلاف أعمارهم وأقدارهم ومشاربهم وكان يكره التعصب لأى رأى فى شتّى مناحى الحياة مؤمنا بأن التعصب هو من ضيق الأفق وأن محاولة فرض الرأى بالقوة هى دليل ضعف الحجة وعلّمنا دائما أن ما قاله الإمام الشافعى «إن رأيى صواب يحتمل الخطأ ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب» هو دلالة على السماحة وقبول الآخرين الذين من حقهم التعبير عما يعتقدون وإلى جانب ذلك كان أديبا رشيق العبارة يجد متعته الأولى والأخيرة فى القراءة وخطاباته إلينا عن رحلاته هى قطع من الأدب الرفيع الذى يعكس مشاعره النبيلة ونظرته الثاقبة لمختلف أمور الحياة.
أما فى عمله فقد آمن طيلة حياته أن عدل القاضى فى محكمته هو الركيزة الأولى لعدل السلطة خارج المحكمة، وهو بداية العدل الاجتماعى فى الوطن، وكان والدى منذ تخرجه بامتياز من كلية الحقوق عام 1940 متميزا فى أداء واجباته، وقد لقى على ذلك كل تقدير رغم أنه لم يكن من أقارب الكبراء أو محسوبا على ذوى النفوذ ضاربا بذلك لنا المثل بأن عمل المرء واجتهاده هو سبيله للنجاح، وكان مما يعتز به أنه عند تعيينه وكيلا أول لنيابة الصحافة عام 1951 أقسم ألا يمنع كلمة حرّة أو يصادر صحيفة أو يقيد حرية صحفى وقد برّ بقسمه هذا حيث استدعى أمامه فى تلك الفترة المضطربة من تاريخ الوطن الكثير ممن نعتز بهم من حملة الأقلام غادروا التحقيق أمامه أحرارا.
وقد شاء حظه أن يبدأ حياته العملية وأن يختمها فى فترة عاصفة من تاريخ مصر وأن يكون بحكم عمله هذا فى قلب الأحداث شاهدا عليها ومشاركا فى صنعها فقد شارك فى التحقيق فى أهم الحوادث السياسية مثل قضية السيارة الجيب، اغتيال النقراشى، محاولة اغتيال النحاس، واغتيال سليم زكى ورغم منصبه الرسمى فقد تقدم للشهادة بوقوع تعذيب على عدد من المتهمين، كما انتخب عضوا بمجلس إدارة نادى القضاة قبل ثورة يوليو فيما سمته الصحافة «ثورة فى نادى القضاة»، وندب رئيسا للمحكمة العليا بقطاع غزّة وشارك فى إعداد أول دستور لها وأسرته إسرائيل فى 1956 وفى الستينيات عيّن محافظا لأسيوط ثم بنى سويف وبورسعيد واختير وزيرا للعدل فى ثلاث وزارات حيث ألغى تنفيذ حكم الطاعة بالقوة الجبرية وأعد أول قانون تقدمى للأحوال الشخصية وكان أول من خاطب مفتى الديار المصرية داعيا إلى رؤية هلال رمضان استنادا إلى الحسابات العلمية الفلكية كما أعد قانونا بإلزام رئيس الجمهورية بتقديم إقرار الذمة المالية وأشرف على تحقيق وفاة المشير عامر ورفض احتواء الاتحاد الاشتراكى لرجال القضاء الذين هم سدنة العدل وملاذ الناس ومصدر أمنهم.
لقد عاش والدى الحبيب حياته بضمير القاضى مطمئن النفس محبا للناس ومتمتعا بتقديرهم وظلت سيرته العطرة وسماحة نفسه رصيدا غاليا عند كل من عرفه لتظللنا جميعا برعايته رغم مرور السنوات على رحيله، أترانى بهذه الكلمات قد وفيته جانبا ولو بسيطا من حقه لدى وسددت قدرا ضئيلا من دينى تجاهه؟ أتمنى ذلك.