أ، ب، ت، ث، ج... ي، 28 حرفا يشكلون محيطا لا حدود لضفافه، يتجدد ويتمدد، نشكل منهم عوالم لا متناهية من الكتابة والشعر والفن والخيال والسحر والجنون.. إلخ، 28 حرفا نشكل منهم معاني الخوف والسكينة، البغض والحب، الشقاء والتعاسة، كل المرادفات وكل الأضداد وكل الثنائيات، كل ما نعرفه وكل ما لا نفهمه، 28 حرفا، يمثلون بئرا عجيبا كلما أخذت منه فاض وكنزا سحريا كلما انفقت منه زاد، بهم نكتب اللعنات وبهم نردد الأدعية ونستلهم الأحجية، وبهم يحول «الضوي» الخيال إلى صور تشاهدها معلقة على سقف الحجرة البراح، الحجرة المسكونة بأحلام البشر ومخاوف الإنسان، الحجرة المحرمة، الحجرة رقم 44، شياطينها تطاردك، وملائكتها يتسلل نورهم إلى أعماق نفسك فتشعر بعد الرهبة بالسكينة.
الضوي محمد الضوي شاعر أقصري موهوب ومتميز، سماه أبوه على اسم جده، وجده سماه أبوه تيمنا باسم ولي الله الشيخ الضوي أبوحسن، تجد في شعر «الضوي» الصغير لمحات صوفية ولعلها ارث الاسم، رغم صغر سنه (26 سنة ) فلقد حصد عدد من الجوائز الرفيعة:جائزة الشاعر عبدالله باشراحيل 2009، الجائزة المركزية لهيئة قصور الثقافة عن ديوان «وربما أكثر» في 2011، وجائزة بهاء طاهر الادبية عن اتحاد كتاب مصر 2013، ثم أخيرا جائزة الشارقة للابداع العربي المركز الاول عن مسرحيتي الشعرية «في حضرة الحيرة 2014، أما مهنة الضوي التي يتعيش منها في التدريس بكلية الاداب جامعة المنيا .
نشر له من قبل ديوان «وربما أكثر» ولهَ ديوانان أحدهما يصدر قريبًا عن هيئة قصور الثقافة «إثر بلطة في القلب»، وديوان آخر بعنوان«من براح سقف الغرفة» وهو يعد انضج تجاربه الشعرية ولقد خصنى الشاعر بنسخة منه أنشر هنا بعض قصائده .
الديوان مقسم ل5 غرف: الحب، الفقد، التخلي، التحلي، التجلّي، الفواصل بينهم غير متاحة على مستوى المشاعر، فهو ينطلق بك في رحلة بين الارض والسماء وبين السماء والارض لاتدرك تماما أين أنت،رحلة ذات مفرادت خاصة يصاحبك فيها بعض الكائنات المفضلة لدى «الضوي» وأشهرها:النملة والفراشة، النمل يمثل له التضاد،عظمة النظام والمنظومة تقابلها هشاشة الدفاع عن النفس والقدرة على التصدى، أما الفراشة فهى تمثل الانطلاق والانس والصدق والرهافة، وإليكم بعض أسرار الحجرات الخمس التي نقشها الضوي على السماء .
الغرفة الأولى:
«عامل المحجر»
لا أعرف لماذا صار دورُ المحبِّ صغيرًا عليّ؟ أصغر مما ينبغي تجاهكِ.. إنه يحتاج إلى مُحِبَّةٍ في المقابل.. يعتبر أن ما تمنحينَهُ له يجب عليكِ منْحُه.. ولا يكفي أن يكون لانكِ تحبين هذا.. هذا أصغرُ مما يليق بكِ.. جدير بي أن أكونَ صاحبَ دورٍ أكثر فخامة.. كأن أكونَ عاملا في محجرٍ.. وأنا الأسمر ضخم الجثة.. فقط عاملا في محجر.. يجرُّ مع رفاقه عربةً تحمل مزيدا من الاحجار التي تزن عشرات الاطنان.. ينقلونها إلى منطقةٍ قبالة قصرك.. ويشيدون مبنى جميلا على شكل وردة.. أو سبيلَ ماء.. أو مرصدًا فلكيًّا تعددين عبرَهُ نجومًا تعرفينَ أنها تحبُّكِ.. حتى إذا استقيظتِ في الظهيرةِ.. نظرتِ إليه مشيَّدًا ومحكمًا وفخيمًا.. فاستدعى هذا ولو قليلا من فرحتكِ الطفولية.. سينقلون إلينا الخبر ونحن نحتسي شاي العصريّة.. هنا في محجرنا المشمس.. وقد تراخينا نلتقط أنفاسَ المحبة.. ويقطر من جباهنا عرقٌ وددنا لو احتفظنا به في قوارير.. لانّا بذلناه من أجلكِ.. فقط من أجلكِ.. سيُقَالُ لنا: لقد فرحتْ بما فعلتم.. سأبتسمُ مثلهم جميعا.. لكني وحدي من سيبتسم قلبُه.. على اتساع العالم.. العالم الذي تنيرينه يا حبيبتي ..
الغرفة الثانية :
«تمثال السُّكّر»
أبي الرجلُ السُّكَّرُ
أورثَ كلَّ واحدٍ من إخوتي قطعةً في جسده
قطعةً من سُكَّر
تراها وهو يتعرى.. بيضاءَ شهيَّةً
وهو غاضبٌ.. سائلا ساخنًا يلسعُ
وهو يموت.. لُزُوجَةً تلصقُ الروحَ بالاركانِ
وهي هادئةً.. هادئةً تصعد..ُ
أما أنا..
فأنا تمثالُ السُّكَّرِ
هكذا أنجبني أبي
تمثالا خالصًا من سُكَّر
مجانيًا ووحيدًا..
يقف عليه الذبابُ..
كما يقفُ عليه النحلُ
ينكسر إذا احتضنْتَهُ بشدّةٍ
ينكسرُ إذا انصرفتَ عنهُ
أو إذا طرقتَ إلى جوارهِ
طرقةً مفاجئةً ويابسة
أبي يحبني كثيرا
وإخوتي يكرهون ذلك،
قالوا نلقيه في البئر.. سيذوب ولن يشعر به أحدٌ
لكنهم خافوا أن يتغير طعمُ الماء ويُفْتَضَح الامرُ
قالوا نطرحه أرضًا ولن يرى أحدٌ السُّكَّرَ في الرمالِ البيضاء
لكن النملَ سيفضحُ الامرَ أيضًا
قالوا تحبُّه واحدةٌ ويحبُّها
تقضمُهُ كلَّ ليلةٍ قضمةً
فيذبل..
مثل شمعِ الاضرحةِ يذبل
ويموت..
هو تمثال سكر.. سيذبل ويموتُ على أية حالٍ
مثل عروسة المولد ومثل حصان المولد
من أثر التخزين.. أو من أثر القضمِ
أتت واحدةٌ أحبُّها وتحبُّنِي
وهكذا.. قبَّلتني
قبلةً طويلةً طويلةً
فابتللتُ..
سِلْتُ على شفتيها عسلا
وانتهى..
انتهى كلُّ شيء ..!
الغرفة الثالثة :
«لابد أنها تفنى»
لا أؤمنُ بالحبِّ
أوُمِنُ بالخسارةِ
بالانهزامِ
وبالنسيان..ِ
بالعرباتِ التي تنقلبُ فجأةً في الطريقِ إلى المصيفِ
وبالعُودِ الذي يكسرُهُ صاحبُ المحلِّ على رأسِ عَازِفِهِ
لانَّهُ يزعجُ الراقصة..
ولا يساعدُهَا في إثارةِ زبائنِهَا المساكين
بالمسجدِ الذي ينهارُ على رأسِ المصلِّينَ عشيّةَ القَصْفِ
وهمْ يَدْعُونَ.. «آمِنّا ولا تُرَوِّعْنَا»
وبالقططِ المدهوسَةِ تحتَ إطاراتِ السياراتِ
وهي تعبرُ الطريقَ إلى وليفِها أو صغارِها الرضَّع..
أوُمِنُ بكلِّ هذَا..
وأومنُ بي وأنا أشربُ أطنانا من المنوِّمِ في الحلمِ وقبلَهُ وبعدَهُ
ومع ذلكَ لا أموتُ..!
وأسمعُ كلَّ الاغاني الحلوةِ ومع ذلك لا أنساكِ..!
أومنُ بكِ وأنتِ تنسحبينَ من المشهدِ
كأنكِ السهمُ الذي انغرسَ
ووجبَ الان سحبُهُ؛
حتى يموتَ القتيلُ بكميةٍ أكبر من الهواءِ تملا أحشاءَهُ فجأةً
أومنُ بالثلجِ الذي يذوبُ
والشمسِ التي تَصْهَرُ
وبالذكرى التي تَفْنَى...
لابدَّ أنَّهَا تَفْنَى..!
الغرفة الرابعة:
«شكرا لك يا الله»
شكرا لك يا الله الذي يرزقني
بما يضمن لي
أن أدفع حساب مكانين في الميكروباص
فأحتفظ بمجالي الحيوي
لطيفًا
وملائمًا
ومهيّأً للبكاءِ ...
في أي وقت..
شكرا لك يا الذي تعلّمني
أن أتخلّص من أشخاص لا أريدهم
ومع ذلك أعرف كيف أنام
دون التفكير في أحزانهم
التي لا تنتهي..
شكرا لك لانك تجعلني أضحكُ
أضحكُ من قلبي..
الذي انشطرَ إلى نصفين..
منذ آخر سهامك التي أرسلتها إليه..
شكرا لانك
تجعلني أبوح هكذا وعلى الملا
بما يظنونه أدبًا
وأنا الذي أكتم ما أكتم
حتى أفضحه بهذه الطريقة
كما يطلق طفلٌ خبزَه في الهواء
حتى يبردَ.. ولا يحرق شفتيه
شكرا لأنك تحبني
وتزورني في أحلامي
بما أحب..
كمن يحمل تفاحًا أحمرَ
في زيارتِهِ
لذي الساق المبتورة..
شكرا لأطفالك الذي صاروا يناغونني
ويتعرفون عليّ سريعا
ولِفَرَاشَاتِكَ التي صارتْ تظهرُ لي
وتؤنسني.. حيةً وميّتة
ولِيَدِك التي صافحتُها
حينما صافحتُ يدَ حبيبةٍ
لا تعرف اسمي بعد..!
الحجرة الخامسة:
«أنا وهو وحيدان وحيدان جدا»
منذ سنواتٍ بعيدة
ابتلعتُ فراشةً وأنا أغنّي
فراشةً طارت إلى حنجرتي، كما تفعل الفراشات باتجاه النار
ليس صوتي جميلا، ولا أعرف ما الذي جذبها
حاولت لفظَها كما فعلَ الحوت بيونس،
زرعت لها على سور نافذتي يقطينًا،
وسرّبتُ لها الدعاءَ المناسبَ
لكنها لم تخرج..
الآن تقف الفراشات على أنفي
وعلى رأسي ويدي وكتفيَّ فجأةً..
لستُ جديرًا بمحبتهم،
ولا نورانيًّا بما يدفعهم للوقوف على جسدي مطمئنين..
إنهم يزورون أُخَتَهُم التي تسكنُ وحيدةً في الداخل..
أنا شاهد قبرها، أنا قبرُ فراشةٍ
مرّت ذاتَ غناءٍ من هنا، وأغرتها حنجرتي بسُكْنَاي
سارتْ إلى داخلي، ولم تخشَ الوَحدة
إنها تناديهم فيُلَبُّونَ النداء:َ
يا كلَّ فراشةٍ تمرُّ من هنا، إنني في الداخلِ، وحيدةً أسكنُ،
وقُربُكم يؤنسني، يا أخواتي إذا غنّى هذا الرجلُ فأسرعوا إلى حنجرته،
إنها مزمار صالح للسُكنى،
إن لم تستطيعوا، فامكثوا قليلا بالقرب مِنَّا؛ فأنا وهو وحيدان
وحيدانِ جدا..!