منذ ثورة يناير ٢٠١١، حمل حقيبةَ الثقافة ثمانيةُ رجال، بعضُهم شديد الثقافة والاستنارة، وبعضهم ظلاميّ موغل فى الرجعية، بعضُهم جسورٌ لا يقيم وزنًا للحسابات السياسية، وبعضهم يحسب للقدم قبل الخطو موضعَها؛ حفاظًا على الكرسى الثمين.
لكن المعادلة المطلوبة هذه اللحظة تحديدًا، هى الجمع بين «الاستنارة» و«الجسارة». لأن الاستنارة الخائفة التى تعتمرُ التقيةَ، لن تدفع بالمجتمع نحو النور. والجسارة السلفية غير المكللة بالاستنارة والمدنية، تدفع المجتمع نحو الرجعية والظلام.
لا نحتاج اليوم إلا مستنيرًا يحطّم أسوار الظلام المعششة فى الرؤوس، ويفكك الموروث القديم ويفنّده لينتخب منه العلمى الحضارى فيُكرّسه، ويُلقى أدراج الرياح الركيكَ غير الإنسانى المُهين لقيمة الإنسان وفكره. ولا بديل عن أن يكون هذا المستنير جسورًا غير هيّاب من ألسن التخلف التى ستلاحقه حينما يكسر الصندوق وينشقّ عن القطيع ولا يُحنى الرأس أمام سيوف تجّار السماء أفاكِى كل العصور.
لهذا رحبّتِ الجماعةُ الثقافية بالكاتب والباحث «حلمى النمنم» وزيرًا للثقافة، ليس فقط لأنه جاء بعد سلفٍ رجعىّ، بل لأن له باعًا طويلا فى مكافحة الفكر الظلامى وفضح الجرثومات الإخوانية فى خبيئاتها منذ عام ١٩٢٨ وحتى الأمس القريب.
وكانت خطوة شديدة التحضر أن استهّل مهامّ منصبه بعقد اجتماع مع المثقفين والأدباء فيما يشبه جلسات العصف الذهنى، التى نرجو أن تكون دورية، لكى يستمع إلى همومهم وأحلامهم ورهاناتهم عليه فى المرحلة القادمة. وكانت خطوة شديدة الذكاء أن اختار أن ينطلق هذا اللقاء من ورشة الزيتون الإبداعية التى نفخر، نحن جموع الأدباء والمثقفين، بمظهرها البسيط المتقشف ومقاعدها الخيزران المتهالكة التى حملت كبار مثقفى ومبدعى العالم العربى، وطاولتها الخشبية العتيقة التى حملت آلاف الكتب والمخطوطات ودواوين الشعر والروايات على مدى عقود ثلاثة تحت قيادة الشاعر والباحث شعبان يوسف. وبالضبط كما قالت د. كريمة الحفناوى إن اختيار الوزير ذلك المكان الشعبوى العريق للالتقاء بالمثقفين، يعكس إيمانه بأن الثقافة تبدأ من قاعدة الهرم صعودًا نحو الأعلى وليس من قمة الهرم نحو السفح. فالشعب إن آمن بأهمية الثقافة، علا المجتمع وانتعش الإبداع وارتقى الفكر. الشعب الذى كان يحفظ قصائد شوقى وينصت إلى عبدالوهاب حرامٌ أن يغدو هذا الذى نراه من حولنا اليوم.
تكلم المثقفون عن أحلامهم فى إحياء المتاحف والمسارح والمكتبات التى أصابها الموات. وطالبوا باستنهاض الفولكلور الشعبى الذى طمرته التكنولوچيا. طالبناه بجعل الثقافة مشروعًا قوميًّا تتضافر فيه وزارته مع وزارات التعليم والسياحة والتراث وكافة المنابر الإعلامية من مسجد وكنيسة ومدرسة ومؤسسات ومحليات وغيرها للنهوض بالحراك الثقافى والمستوى الفكرى لدى المواطن المصرى. وأعلن الوزير اعتزازه الغامر بالحضارة المصرية القديمة، معلنًا أن أجمل شعار قيل فى ثورتى مصر ٢٠١١-٢٠١٣ هو: «ارفعْ راسك فوق انت مصرى»، وهو ما ردَّ إلينا نحن الجماعة الثقافية الأملَ بأن تتبنى وزارة الثقافة مشروعًا تنويريًّا يُعلى من شأن هويتنا المصرية المثقفة الخالدة التى لا يعرفها النشء الجديد، فى حين قرأ عنها ودرسها أبناء كل دول العالم المتحضر فيما يدرسون من علم المصريات Egyptology فى مدارسهم. كذلك ينتوى وزير الثقافة النهوض بشأن المرأة فكريًّا وثقافيًّا وناقش مع المثقفين السبل حول هذا، منتقدًا الدور السلبى الذى كرّسته الجماعات المتطرفة عبر قرون طوال فى امتهان المرأة والحطّ من شأنها عبر فتاوى مدسوسة تخدم ذكوريتهم وشهواتهم ما جعل حضارة نهرية مستنيرة مثل الحضارة المصرية، تعتمر رجعية الصحراء المعتمة. وتكلم الوزير فيما ذكر عن الكوارث التى صنعها عرّابُ الإخوان الأكبر «حسن البنّا»، وعن الوثائق التى تؤكد عمالته للمخابرات البريطانية والألمانية مع مشارف الأربعينيات، لتقويض المجتمع المصرى، وما فعله خليفته فى الظلامية سيد قطب. وطالبناه بأن يحمل معرض الكتاب القادم اسم شهداء القلم والفكر مثل نصر حامد أبوزيد وفرج فودة وطه حسين وغيرهم.
نعلم أن التبعةَ ثقيلة ومرتبكة، لكننا نراهن على أن ثائرًا تنويريًّا مثل حلمى النمنم، لن يتوانى عن تثوير المجتمع فكريًّا وثقافيًّا، وهى الثورة التى مازلنا نفتقدها بحق، بعد ثورتين سياسيتين أطاحتا بحكوماتٍ وحكّام، لكنهما لم تطيحا بعد بما فى الرؤوس من ظلام.
Twitter: @FatimaNaoot