فى الزمن القديم اخترع اليونانيون دورة الألعاب الأوليمبية لكى يكون التنافس فيها بديلاً مؤقتاً عن الحرب، العرب اخترعوا أمراً آخر وهو أن تكون هناك أشهر حرم يحرم فيها الاقتتال، ويجرى فيها التنافس بكتابة الشعر. فى العصر الحديث باتت الانتخابات هى البديل «الديمقراطى» للنزاع أو الصراع السياسى حسب الحالة، فيكون التنافس حول أفضل مناهج ترقية المجتمع والدولة. ورغم أن مصر عرفت الانتخابات النيابية منذ عام ١٩٢٤، إلا أنها نادراً ما شهدت انتخابات نزيهة، ومن ثم كان التنافس أشبه بمباراة كان الحكم فيها متحيزاً طوال الوقت. فى بلاد عربية أخرى، كانت هناك تشوهات جعلت منهج الانتخابات لا معنى له. الآن دخلت مصر إلى مرحلة انتخابية بعد ثلاث سنوات من توقفها لأسباب قانونية وثورية، ومعنى ذلك أننا على أبواب عالم آخر من الاستقرار، والقدرة على القول إننا نعيش مرحلة «ما بعد الثورة»، بالطبع ما لم نشهد مفاجآت جديدة تعودنا عليها إلى الدرجة التى باتت عندما تقع لا يعدها أحد من المفاجآت. فهكذا بات الحال فى مصر!.
لنفترض أن الأمور سوف تسير فى المسار المقرر لها، وأن أحداً من المحامين لن يتقدم إلى المحكمة الدستورية العليا لكى توقف العملية الانتخابية لأن بها عواراً أو آخر، أو إذا فعل فلن تستجيب له المحكمة. وعلى أى الأحوال فحتى كتابة هذه السطور فإن الدعاية الانتخابية دخلت مراحلها الحماسية. بالطبع فإن هناك كثرة من المتشائمين، الذين رغم أنهم لا يطعنون فى الانتخابات فإنهم يرون فيها عواراً سياسياً واجتماعياً يعود إلى وجود العصبيات فى المجتمع، والمال الخاص فى الاقتصاد السياسى للدولة، والكسل الطبيعى لدى المصريين فى الذهاب إلى صناديق الاقتراع. وهناك الفاشلون من كل نوع، الذين من فرط تأكدهم من الفشل قرروا «المقاطعة» لأنهم يمثلون التيار العام فى الدولة الذى لا يذهب إلى الانتخابات!. وهناك المفرطون فى التشاؤم، أنه حتى لو سارت الأمور وجرت الانتخابات فإن النتيجة سوف تكون كارثية، فهى إما تعيد رجالات الحزب الوطنى مرة أخرى إلى الساحة، أو أنها سوف تخلق برلمانا مفتتا غالبيته من المستقلين الذين لا يوجد لديهم ولاء سياسى أو خطة سياسية من أى نوع، أو أنهم سوف يكونون ألعوبة فى يد السلطة فى كل الأحوال.
الحقيقة لو استبعدنا كل أنواع التشاؤم جانباً، فإن الانتخابات سوف تجعل مصر كلها تنظر فى المرآة، وترى حقيقتها ما بين القبح والجمال. سوف نرى أولاً مدى النشاط السياسى الذى اعترى المصريين بعد ثورتين، وهل تغيروا حقاً، ليس فقط بتأثير الثورة وإنما أيضا نتيجة ذلك الذيوع غير المسبوق لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمحمولة، لكى يشاركوا فى إدارة الدولة؟ كما سوف نشاهد ثانياً التركيبة السياسية المصرية على حقيقتها، فالكل فى الساحة السياسية يدعى تمثيله للشعب والجماهير، وأمام صناديق الانتخاب سوف يكون الامتحان، الذى عندها كما نعرف يكرم المرء أو يهان. كما سوف يختبر ثالثاً ذلك الادعاء الشائع عن تفتت النخبة السياسية المصرية، والغياب المتوقع للإسلاميين، وأن المستقلين سوف يسيطرون على البرلمان فلا تكون هناك بوصلة ولا اتجاه، وإنما جمهرة من الناس، وازدحام لا يحد من الكلام. الأخطر رابعاً أن درجة نضج المصريين والتجربة التى خاضوها سوف توضع موضع المساءلة، فالدستور الحالى يخلق حالة من توازن السلطات لم تعرف مصر لها مثيلاً من قبل، وهى إذا أحسن استخدامها ربما تضعنا لأول مرة على الطريق الديمقراطى السليم، أما إذا أسىء الاستخدام فربما نسير إلى طريق حل المجلس، ومن بعده لن يكون للطريق الديمقراطى مكان. ربما تكون هناك طرق أخرى، ولكن الديمقراطية كما يعرفها العالم سوف تهجرنا فى نهاية الأمر.
كما قيل فإن الانتخابات البرلمانية هى الاستحقاق الثالث لثورة يونيو ٢٠١٣، وهكذا اكتملت الثورة، وسوف يكون على مجلس النواب أن يقرر بتشريعاته مستقبل مصر ما بعد الثورة. الرئيس السيسى طرح بعض الأفكار، بل وبدأ فى تنفيذ بعضها، ولكنه لا توجد بعد نظرية كاملة للتقدم المصرى إلا تلك التى وردت فى الدستور. ولكن القواعد الدستورية لابد من ترجمتها إلى قوانين، وهذه بطبيعتها تخلق مصالح مختلفة، وبين هذه المصالح سوف تكون المنافسة التى ما لم تكن منتجة فى النهاية فإنها تتحول إلى نزاعات، التى إذا استحكمت صارت صراعات. ببساطة سوف ينظر الشعب المصرى فى المرآة الانتخابية ويرى حالته كما هى دون زيف أو رياء، وإذا كنا صادقين حقاً فربما سوف يكون علينا أن نتعامل مع ما سوف نشاهده، وليس ما نحلم به!!.