x

أحمد الدريني فُجر الخصومة أحمد الدريني الثلاثاء 29-09-2015 21:39


يقال إن خالد القسري، القائد الأموي الطاغية، مرهوب الجناب، ألقى القبض على أحد معارضي الدولة الأموية ثم أصدر أمرًا بضرب عنقه.

وصبيحة تنفيذ حكم الإعدام، طلبت زوجته أن تزوره، فدخلت عليه السجن لدقائق معدودات ثم غادرت، بينما تغطي ملابسها وجهها ولا تظهر منها شيئا.

وحين دخلوا على الزوج ليقتلوه إذا بهم يجدون زوجته ولا يجدونه!

فقد ارتدى الرجل ملابس امرأته وتخفى بها ثم هرب وترك زوجته مكانه، بالاتفاق معها.

وحين هرع الجنود مرتبكين ليحكوا للطاغية خالد القسري ما جرى، متوقعين أن يأمر بضرب أعناقهم قبل عنق المرأة، فوجئوا برد فعله.

فقد ابتسم واستحسن فعل المرأة وقال قولته الشهيرة "حرةٌ فدت ابن عمها".

ثم أمر بإطلاق سراحها إكرامًا لشجاعتها وافتدائها لزوجها، بل قيل إن الخليفة الأموي عبدالملك بن مراون نفسه عفا عن زوجها إعزازًا لفعل الزوجة.

الشاهد من القصة هو أن حتى أكابر مجرمي تاريخنا، كان لديهم حسٌ أخلاقي متزنٌ نوعا ما في الظروف الاستثنائية.

ورغم مركب الطغيان الكامن في نفوس سفاحي هذا العصر من رفاق الحجاج بن يوسف الثقفي، إلا أن خصومتهم الفاجرة، كانت تتوقف لدى ضوابط أخلاقية بعينها، يصعب ألا تلاحظها بامتداد صفحات التاريخ.

(2)

تحضر الواحد ذكرى هذه الواقعة، كلما صادفه فيديو اعتداء أنصار الإخوان على أحد الإعلاميين أمام ابنته، بالألفاظ النابية والكلام الفاحش، في إحدى العواصم الغربية قبل شهور.

الإعلامي المشتوم معروف بجهله ونزقه وقبح كلامه وسفيه تعبيراته ومجافاته لأصول المهنة وبديهيات المنطق.. كوكتيل مزر من الجهل وسوء الخلق.

لكن أي فطرة تلك التي تستبيح شتم رجل والنيل منه أمام ابنته المراهقة، بسبب خلاف سياسي (أو حتى غير سياسي) معه؟

قس على ذلك وقائع الاعتداءات المتتالية، سبًا وضربًا، على إعلاميين وسواهم في جولاتهم الخارجية.

أغلب المشتومين ليسوا بالذين يلقي الواحد لهم بالا أو يفرض لهم في نفسه نصيبا من الاحترام.

لكن هذا المستوى من الخصومة الفاجرة الذي يستدعي الاعتداء البدني واللفظي والتشهير بهؤلاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أمر مزعج للغاية.

هو بطبيعة الحال جزء من مناخ السعار السائد في مصر.

حيث الجميع يشتم الجميع، وحيث الكل يفتك بالكل.

الشرطة بالمواطنين، والمواطنون بالمواطنين الأضعف، والتيارات السياسية بعضها بضعا، والناس على وسائل التواصل الاجتماعي بعضهم بعضا.

كلنا ينهش في كلنا، شتما وعدوانًا.

حتى الخليل كوميدي.. لم ينج من علقة غير مبررة على أيدي بعض الشباب الذين صادفوه في الشارع، لمجرد أنه ثقيل الظل!

(3)

مستوى العنف غير المسبوق، ودرجة التشاحن المجتمعي التي وصلنا إليها، مقلقة مزعجة.

ربما هي التوابع المفهومة لزلزال العنف الذي اجتاح مصر منذ ثورة يناير وحتى قبل أشهر قليلة، حيث جرت مذبحة الدفاع الجوي المؤلمة.

فمع اعتياد جريان الدم، ومع مس الوجع لكل بيت في مصر تقريبا، جراء أي من أحداث العنف التي طحنت البلاد، تغير شيء ما في طبيعتنا، وطفت الشراسة على صفحات الوجوه.

ففي السابق كانت ممارسة العنف مكفولة للجهاز الشرطي علنا، في الشوارع والأقسام والسجون.

أما الآن، فقد تحولنا إلى مجموعات تنهش بعضها بعضا، لمجرد اختلاف في الرأي أو التوجه أو الانتماء الرياضي.

(4)

عند هذه النقطة، يقف النظام السياسي وكأنه لا يدرك عمق الورطة، ومن خلفه المؤسسات الاجتماعية والدينية، التي اكتفت بخوض غمار معارك أخرى هامشية لا علاقة لها باختصاصها الأصيل.

فالكوكب الآن منقسم لفريقين: نحن.. ومن ليس معنا فهو علينا.

إن الطنطنات الفارغة بمسمى الأمن القومي، تلفت الأنظار لأسلحة فتاكة ومخططات عملاقة ومؤامرات خبيثة وتحالفات شيطانية.. وتنذر من الخطر القادم إلى منازلنا.

لكن أيا من هؤلاء لا يدرك أن سلامتنا كأفراد، سلامنا النفسي وقدرتنا على التعايش في ظل الحد الأدنى من الاحترام لآدمية بعضنا البعض، أضحى حلمًا بعيد المنال.

فمن يأمن الآن على جسده أو نفسه من شتم أو لمز أو غمز أو ضرب، لمجرد أنه يمر من شارع يقف على ناصيته شخص ما، يكره توجهه السياسي.. أو يرى نكاته ثقيلة الظل كالخليل كوميدي!

(5)

أتذكر قبل عشر سنوات حين جالست أحد الروائيين المعروفين، وحكى لي أنه ذات مرة كان يستقل القطار أثناء عودته من منزله بالصعيد إلى وحدة تجنيده، أيام كان يقضي الخدمة العسكرية.

قال الرجل لي: عسكري لا أعرفه.. اشتبك مع أحد المواطنين، فلم أدر بنفسي- وأنا المتعلم المرهف الحواس- إلا وأنا أضرب الرجل أنا وزملائي العساكر، دون أن نسأل عن سبب الخناقة.

ثم استدرك: نحن ندافع عن أشباهنا، وتضيع عقولنا في لحظات الزحام ولا نفكر جيدا.

وسرح بعض الشيء ونظر لي، بينما تعتصره الحسرة: إياك أن تضرب أحدًا.. إياك أن تضرب أحدًا، فكل صفعة أو ركلة توجهها لأحدهم، تنقص من آدميتك شيئا، وإلى اليوم ألملم شتات نفسي بعد أكثر من 20 عاما، يوم ضربت رجلا بغير حق!

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية