(1)
في تسعينات القرن الماضي كنا نردد نكتة سياسية ذات طابع سريالي، تقول كلماتها البسيطة: أقوى 3 دول في العالم 2.. أمريكا.
(2)
الآن يكرر السيسي النكتة بطريقة فوكوياما في نهاية التاريخ: أمريكا هي الإله الذي لا يقدر على مواجهته أحد.
(3)
الأمريكان أنفسهم لا يصدقون مثل هذه النكات المبالغ فيها، وكوابيس فيتنام والعراق وأفغانستان، لا تزال تُفزِع منام الجيش الخرافي.
(4)
قبل سنوات كان المؤرخ البريطاني المحب للعرب أرنولد توينبي يدرس عوامل النهوض والأفول في حضارات الشرق، فقال إن الدولة الآشورية في العراق انتهت لأنها "اختنقت داخل الدرع".. لقد استهلكت قدراتها في تطوير آلة الحرب ونسيت الحياة!
القوة إذن تقتل صاحبها، هذه حقيقة تاريخية لها أمثلة كثيرة.
(5)
قبل شهور وصلني إشعار من صفحة المخرج الأمريكي أوليفر ستون (على فيس بوك) كتب فيه: "أنا مرعوب، مرعوب جدًّا"!
هاجم ستون وحشية إسرائيل في غزة، ووصف نتنياهو بأنه "كلب مسعور"، وسخر من تصريحات قال فيها أوباما إن أمريكا لاتزال الدولة الأقوى، التي تتحكم في كل شيء على وجه الأرض!
(6)
ستون الذي قدم واحدًا من أهم الأفلام عن القضية الفلسطينية أثناء حصار عرفات (شخص غير مرغوب فيه) تحدث عن فقدان أمريكا لهيبتها، وحذر من هذه النظرة الاستعلائية، ومن التدخل في أوروبا الشرقية و"لعبة أوكرانيا"، معتبرًا أن أمريكا تسعى لتأكيد صورة عتيقة جار عليها الزمن، لكن أوباما لايزال يرددها، حتى لو أشعل حربًا عالمية ثالثة!
(7)
إممممم
(دكتور سترينجلاف.. كيف تعلَّمت أن أتوقَّف عن القلق، وأن أحب القنبلة!).
هذا ليس تعليقي، إنه إشارة من ستون لفيلم المخرج العبقري ستانلي كوبريك الذي يحمل هذا العنوان الغريب.
(8)
تعليقي أقرب لتوينبي: اختناق داخل الدرع، هوس بيروسي، مغامرات حنا بعل العسكرية، الألوية الحمراء، القاعدة، داعش، أو أي تصور لاختزال الحياة في جنازير دبابة، وسكينة ذبح في يد أبو سلمة المصري.
(9)
هذا لا يعني أن أسند ظهري إلى الكرسي، وأبحث عن موسيقى ناعمة، وأسخر من رعب أوليفر ستون، وأذكره بنصيحة اللمبي "الجريمة لا تفيد"!، فأنا لم أتنازل بعد عن فكرة الصراع والإرادة، وأهمية القوة في التغيير وقيادة التطور الإنساني، لكن قوة الحياة لا تعني أبدًا قوة الآلة العسكرية، هناك ما يسمى "قوة الوردة"، قوة الوعي بالمسار الطبيعي للحضارة البشرية، قوة الاتجاه نحو المستقبل، ومن هذا الفهم لن نجد العالم مجموعة من الأنماط والكتل الصماء والطرق الهندسية المستقيمة، لكنه غابة متشابكة، مخيفة، خطرة، علينا أن نتعلم كيف نمضي فيها.. فلا نجاة بلا معرفة.
(10)
في عام 1983 أثناء اجتياح بيروت كتب محمود درويش قصيدة مشتركة مع الغزاوي مصري الهوى معين بسيسو "رسالة إلى جندي إسرائيلي" (أظنه هو الميت الآن) قالا فيها:
"نكتب لك/ من قبل أن تشعلنا قذيفة أو تشعلك
لنسألك: من الذي يحاصر الآخر؟/ من يستوطن الحديد/ أم الذي يعيش في النشيد؟
يا أيها المسربل السكران بالدروع/ يا أيها المصفح المدرّع المجنزر السجين والسجان
هل أنت في أمان؟
الآن، وأنت في الدبابة ـ الزنزانة/ وأنت خلف غابة القضبان
هل أنت في أمان؟
يا ساكن الدبابة:
هل يستطيع المرء أن يبول، طول العمر، في دبابة؟/ هل يستطيع المرء أن يقرأ.. أن يكتب في الدبابة؟/ هل يستطيع المرء أن يطيّر الحمام في دبابة؟/ هل يستطيع المرء أن يضاجع المرأة في دبابة/ أن يغرس الأشجار في الدبابة؟
(..)
الجيش الأمريكي قد يكون أقوى الجيوش على وجه الأرض، لكنه ليس أقوى من إرادة طفل يحب الحياة، ومن لا يصدق فليقرأ دراسات الأمريكان أنفسهم عن اختلاف معايير القوة بعد انتفاضة الحجارة الأولى.