* أنشودة تأملية في أحوال الورد والباذنجان، ومعاناة الحنظل من ظلم قسوة الزمان!
كانت الشمس تلامس مياه النهر وهي تنام هادئة تحت أشعة القمر الفضية، وعلى مقعد حشبي وحيد يبكي عاشقان على كتف جبل حزين وسط الصحراء الخانقة، ذرفت السماء دموعا من الملح، فاندلعت الموسيقى مثل غزال أبيض متوحش يطارد أشجار الغابة الناعسة، وتحت إبط الأسماك أينعت زهور الشوك الحانية.
ماهذا؟
قد يقول أحدكم: إنه الشعر
وقد يقول آخر: هلوسات كابوسية مريضة
وقد يقول ثالث: مجرد ألفاظ مفككة بلا رابط بينها
أما أنا فأقول: هذه هي المرحلة التي نعيشها، قد تبدو في هيئة خليط عشوائي من التناقضات، لكن هذا الخليط العجيب لا يخلو من طبيعة فنية، قد تكون ساخرة أحيانا، أو تهكمية سوداء أحيانا أخرى، أو تراجيديا إغريقية مفرطة في الميلودراما، لكن هذا كله بالنسبة لي يظل نوعا من الفن السيريالي الذي يليق بعصور الأزمات ومعاناة ما بعد الحروب
قد تكون هذه التركيبات السريالية مقبولة من البعض، وقد تكون مرفوضة من غيرهم، وقد تأخذ اشكالا وتفسيرات متباينة جدا حسب تأويل كل شخص، وقد لا يفهمها أحد على الإطلاق، لكنها تبقى حالة عجيبة، تكشف لنا أن العالم هو مايدور في عقولنا ونفوسنا، وليس ما يوجد فعلا، لأن «تفسيرنا للعالم» هو «العالم الفعلي» الذي نعيشه، حيث لايوجد عالم مجرد خارج تفكير الإنسان.
الإنسان هو الذي يمنح الوردة قيمة أعلى من الباذنجان، مع أن «الأسود البدين» أكثر فائدة لذلك الإنسان المنحاز من الوردة المتعالية قليلة الفائدة والعمر!
هل رأيتم شاعرا يكتب قصيدة في الباذنجان؟
هل احتفت البشرية بالشعير مثلا كما تحتفي بالزهور؟
غريب هذا العالم، حتى أن الإنسان الذي يتحدث عن لعبة المصالح ويخرج في المظاهرات مثلا ليطالب بالعدل، قد يكون ظالما يجامل الوردة على حساب الطماطم، مع أنها أكثر لمعانا وإشراقا من بعض الورود!
ماذا أريد أن أقول؟
لاشئ
أو ببعض الدقة، أريد ألا أقول شيئا محددا، ربما مثلا أريد أن اقول أن العالم نسبي إلى حد الخبل، أو أريد أن أقول أن اتفاق الناس على الأشياء أهم من حقيقة الأشياء ذاتها، اتفاق الناس على الوردة جعل لها قيمة أعلى من قدرتها على تحقيق مصلحة للبشرية، واتفاق الناس ضد الحنظل مثلا جعلنا لانفكر في فوائده الكثيرة، حتى أنني لا أعرف واحدة من الفوائد الطبية العظيمة للحنظل وانا أكتب هذا المقال، فنحن نلعنه طول الوقت ونستخدمه في التشبيهات السيئة بسبب مرارته وفقط!
كان عبدالناصر زعيما، كان عبدالناصر طاغيا، كان عبدالناصر وردة، كان عبدالناصر حنظلا، كان عبدالناصر مقاتلا من أجل التحرر، كان ديكتاتورا من زبانية التعذيب، كان رجلا من اشجع الرجال، كان أهوجا مهزوما، كان مخلصا، كان عنيدا، بنى مصر، دمرها، قام بثورة، قام بانقلاب...............
هكذا ننظر إلى تاريخنا، هكذا ندعي العقل والواقعية، ونحن نجمع الشمس والقمر على مائدة واحدة، ونصطاد السمك من الهواء، ونشكو من ضيق الصحراء، ونحكي عن هروب الأشجار جريا في الليالي الحالكة!.
هكذا نختلف حتى الاقتتال على عبدالناصر رغم أنه لا يزال قائدا أكثر من (القادة) وحيا (أكثر من الأحياء) بعد 45 عاما على رحيله في ذلك الأيلول الأسود
رحمة الله عليك يا عبدالناصر، رغم كل ما قيل، وما يقال، وما سوف يقال.
جمال الجمل