x

جمال الجمل هيكل ونجيب محفوظ جمال الجمل الإثنين 21-09-2015 23:36


نختلف مع هيكل ولا نختلف عليه.

هذا المدخل الذي يحاكي تعبيرات الأستاذ، يفتح مجالا لنقاش حر ومنفتح مع أفكار هيكل، ويتسامح مع أي انتقادات لأرائه، ويسمح بتقويم مسيرته في الصحافة والسياسة، ويبتعد بشخصيته عن حصانة القداسة، وبمحبيه عن تبعية الدراويش. هيكل «جورنالجي»، لا يحبذ المواعظ والخطب الاخلاقية، والكلام المرسل، وعبارات الإنشاء البلاغية، فهو ابن الواقع، سليل الانفتاح الليبرالي وطموح التحديث في الثلاثينات والأربعينات، صنع مجده عبر مسيرة شاقة لمطاردة الحقيقة، واصطياد الخبر، والاجتهاد في توثيق الأحداث المثيرة للجدل، رافعا راية البرجماتية بلا خجل، ومنتصرا للعقل، والنقد، والتطلع للمستقبل.

هذه النزعة الواقعية لا تصلح لتصنيع «نبي»، ولا تتسق مع فكرة العصمة من الخطأ، والتحصين ضد النقد والاختلاف، لذلك حرص «الجورنالجي» منذ السطر الأول في قصة حياته، أن يعطي النقاد والمختلفين أقصى حقوق النقد والتعليق، لكل ماينشره أو يمارسه في الشأن العام، واحتفظ بجانب من حياته الخاصة بعيدا عن مساحات النشر، متمنيا عدم الزج بها في حلبة الصراع السياسي أمام بوابات القصر أو داخل ممرات الصحف، وحتى عندما يحدث ذلك، يلزم الجورنالجي الصمت، فلا يرد ولا يعلق على مهاجم أو منتقد، مهما طال الهجوم، ومهما تطرف أو تطرق.

هذه الكلمات ليست مجرد هدية شكلية في عيد ميلاد الأستاذ، وليست محاولة للدفاع عن رجل اختار ألا يدافع عن نفسه، لكنها قراءة متأنية في ملامح التكين والنشأة، تهدف لإظهار جانب من قيمة وقامة كاتب صنع تاريخه بقلمه واجتهاده، كما أنها «مشاعر تقدير» في عيد ميلاد شاب مصري بسيط انطلق من القاهرة الشعبية متجاوزا كل العقبات ليضئ سماء الصحافة العربية.

1- في هذا المقال أتأمل علاقة التشابه وظلال التضاد بين هيكل ونجيب محفوظ: على الضفة المقابلة لحياة محفوظ في القاهرة الفاطمية ولد محمد ابن الحاج حسنين هيكل تاجر الحبوب في خريف 1923، بعد عقدين من ميلاد محفوظ، جمعت بينهما سمات المكان المضمخ بعبق التاريخ، والزمان الذي تتصارع فيه قيم الأصالة مع محاولات التحديث، لكن «المقابلة» استمرت في ظروف النشأة وانعكاساتها على الشخصيتين، فالحاج حسنين، كان بعيدا عن سمات شخصية «سي السيد» التي تشكلت حولها حياة وأدب محفوظ، والسيدة هانم سلام (والدة محمد) كانت النموذج المقابل للست أمينة زوجة سي السيد، مسلوبة الإرادة والحقوق، فهي متعلمة وطموحة، وتنتمي لتيار التحديث الذي كان يدب في أوصال «القاهرة الجديدة».

كانت الأم هي مفتاح تشكيل شخصية محمد، والموجه الأساسي لمسار حياته، وساعدها في ذلك شقيقها سلام، فقد اصرت على تعليمه تعليما نظاميا في مدرسة رسمية، ولم تكتف بحفظه للقرآن ومحو أميته الأبجدية، وغرست فيه بذور الكموح والالتزام والنظام، وعندما تخرج في مدرسة التجارة المتوسطة، بدا حياته العملية والتحق بعمل بسيط، تعرف من خلاله على زميل قوي البنية، كان يهوى الصحافة، وهكذا انضمت الصدفة إلى الاجتهاد والطموح لتفتح طريق الشهرة والمجد للاسم الثلاثي الذي سيصير بعد سنوات أسطورة الصحافة العربية: محمد حسنين هيكل.

المفارقة بين حياة هيكل ومحفوظ عادت لتجمعهما في الحياة العامة، فقد فتح الصحفي الكبير مساحة نشر في «الأهرام» للروائي الكبير، ونشأت علاقة مودة وتقدير برغم اختلافات المشارب والتوجهات السياسية، كان هيكل قوميا منتيما لمشروع عبدالناصر، فيما ظل محفوظ وفديا ليبراليا، أقرب للفرعونية والنظر إلى مصر خارج حدودها، كما كان هيكل صحفيا يهتم بالاخبار والسياسة، فيما كان محفوظ موظفا في الصباح صعلوكا في المساء، مبدعا تقدميا في الخريف والشتاء، بيروقراطيا صارما بقية العام، ولا أحد يعرف على وجه اليقين سر احتفاء هيكل بمحفوظ وكبار المثقفين والادباء في تلك الفترة مهما تباعدت الأهواء والانتماءات، يقول الخبثاء إن هذا الاهتمام مجرد وسيلة من النظام استخدم فيها هيكل لاحتواء تمرد المثقفين وأصواتهم العالية، خاصة بعد أزمة مارس وماتلاها، ما دفع هيكل لنشر مقالاته عن هذه الفترة في كتاب «أزمة المثقفين»، ويقول آخرون إن تصرف هيكل مجرد شطارة صحفية، واستمرار لسياسته في احتكار النجوم، والمنافسة بينه وبين صديقه اللدود مصطفى أمين و«أخبار اليوم»، لكنني أرى ان تقدير هيكل للثقافة والأدب ينبع من منطقة عميقة في شخصيته منذ الطفولة والشباب المبكر، حيث تربى على قراءة الأدب بتشجيع من الأم والخال، وقدم في شبابه المبكر تجارب نادرة في كتابة القصة القصيرة نشر بعضها في مطلع الاربعينات، لكن يبدو أن الصحافة التهمت هذه الميول، وتغذت على الموهبة الأدبية، ووظفتها لصالح الكتابة الصحفية، وهو مايبدو واضحا في أسلوب هيكل الذي يتماس مع أسلوب محفوظ في تقنيات الوصف، ورسم الأجواء وملامح الشخصيات.

في المقال المقبل: هيكل وجمال حمدان

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية