x

جمال الجمل في خصومة الطوبة والجدار جمال الجمل الإثنين 28-09-2015 21:20


* قبل أن تقرأ تذكر أن هذا القصر الكبير، يتكون من أحجار صغيرة.

لدي هواية قديمة لم أتوقف عنها منذ بدأتها وأنا في العاشرة من عمري، حيث قرأت قصة طويلة وعجيبة بعنوان «حمزة البهلوان»، كانت أشبه بملحمة طويلة في عدة أجزاء، لكنني مع الوقت نسيت مضمونها وظروف قراءتها، فقد ترسبت في أعماقي، وعاشت في قاع النسيان، ولم أتذكرها إلا أمس فقط.

كنت أتهيأ لكتابة هذا المقال، واستخرجت ملفا يتضمن مقتطفات أحتفظ بها من مسرحية «كاليجولا» للكاتب الفرنسي ألبير كامو، وفجأة سألت نفسي عن سر هذا الكم من المقتطفات الذي احتفظ به باعتزاز غير مفهوم، وجلست استرجع ذاكرتي بطريقة التداعي الحر، التي تعلمتها من الوحدة الموحشة في فراغ الليل الريفي الطويل، وتذكرت أنني عثرت في صبابا المبكر على مجلدات غريبة ذات ورق أصفر ورائحة تلسع الأنف، كانت في دولاب حائط قديم في غرفة جدي.

كنت قد انتهيت من الدراسة في الصف الثالث الابتدائي، والأجازة الصيفية تزحف مثل تنين خرافي ينفث نيران الملل والفراغ والرتابة، حيث يحملنا أبي في السيارة إلى بيتنا في القاهرة لنمضي الصيف في سجن كبير بعيدا عن رحابة القرية وأمسيات السمر العائلية.

حشرت المجلدات داخل أمتعة السفر لأتسلى بقراءتها في الاجازة، ومع الصفحات الأولى دخلت عالما سحريا أشعل خيالي، حيث العفاريت والجن واللوح المحفوظ، والسيف المسحور، والغزالة، والطفل المنبوذ الذي أفلت من القتل ....إلخ

كان خالي الذي يعمل في القاهرة هو الوحيد الذي يزرونا يوميا، ولاحظ اختفائي على غير العادة، وعرف أنني لا أخرج من غرفتي، إلا وقت الطعام، ولما دخل وجدني راقدا على سجادة واضعا الكتب أمامي، ومستغرقا في القراءة، انزعج من شكل الكتاب الذي أقرأه، وحاول إخفاء ذلك بحوار هادئ استمر أياما، ليقنعني بالاكتفاء بهذا القدر من القراءة، لأن الملحمة أكبر من إدراكي ولا تناسب عمري.

قال خالي أنه قرأ نفس المجلدات منذ سنوات طويلة، ويعرف أنها نسخة نادرة من سيرة سيف بن ذي يزل توارثتها العائلة، ووعدني إذا توقفت عن القراءة أنه سيحكي لي الباقي في شكل حدوتة يومية، لكنني رفضت، وواصلت القراءة حتى تورمت عيناي تماما في نهاية الاسبوع، وهي المرة الوحيدة في حياتي التي تورمت فيها عيناي بهذا الشكل الغريب.

قضيت وقتا في العلاج، أجبرتني الأسرة خلاله على التوقف تماما عن القراءة، وقبل نهاية الأجازة الصيفية بأسبوع عدت إلى القرية استعدادا للدراسة، كانت سيرة ابن دي يزل تشغل خيالي، لكنني لم أتذكر منها إلا مشاهد خيالية وأشباح، وكائنات غريبة، وجياد وسيوف، وقتال لا يتوقف.

شعرت بالضيق لانني نسيت ماقرأت، ودخلت في حالة من التشوش، لذلك لما وقعت في يدي قصة حمزة البهلوان، فكرت أن استخلص الأحداث المهمة، والعبارات المؤثرة، وأكتبها في كشكول ليسهل على استعادة القصة وعدم نسيانها، وهذه بداية الهواية التي تحولت إلى أسلوب، ليس في القراءة وفقط، ولكن في التفكير، فأنا أهتم بالتفاصيل الصغيرة، ولكنها تفقد كل أهميتها بالنسبة لي، وتضيع في النسيان، إذا فقدت السياق التي تنتظم فيه، وهو شئ قريب من نظرية الجشطالت، حيث يصبح «الكل أكبر من مجموع الأجزاء والتفاصيل التي يتكون منها».

وأذكر في أحد لقاءاتي بالشاعر الكبير محمود درويش أنني تحدثت عن رغبتي في دراسة اشعاره وفق هذه النظرية، وبالفعل أعددت ما اتفقت على درويش بتسميته «ديوان المأثورات الكاملة»، وهي مقتطفات منتزعة من القصائد لكنها تعبر عن معنى متكامل ومنفصل وقائم بذاته بعيدا عن القصيدة، لكن وجوده داخل القصيدة يأخذنا إلى المعنى إجمالي لا يمكن فهمه من المقتطف أو «السلوجان الشعري»، وهكذا ندخل مساحة جديدة من النقد المقارن بين النص ونفسه.. بين النص كتفصيلات وهوامش، والنص كمتن إجمالي.

وبعد كل هذه السنوات، اكتشفت ان لدي حصيلة كبيرة من المأثورات لأعمال وكتاب كثيرين، لكنني لم أجد الوقت بعد لتطوير هوايتي القديمة، فظلت مجرد لعبة ذاتية للمتعة والتسلية، لكنها بين حين وآخر تتملكني تماما، وتحرضني على بناء نصوص استثنائية تعتمد على هذه المأثورات والمقتطفات.

هل أستطيع؟

ذلك هو التحدي الذي يواجهني ويواجه المجتمع كله؟

كيف نبني عالما جديدا من المفردات القديمة؟

كيف لا نكتفي بتكرار ما أبدعه السلف؟

كيف يتصالح الماضي مع المستقبل؟

كيف يتحول التراث إلى خامة لإبداع عصري جديد؟

فكروا معي في التحدي، وتأهبوا للاستجابة.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية