x

سعد الدين ابراهيم قوة مصر الناعمة من أبوبكر الجندى إلى راجى أسعد سعد الدين ابراهيم الجمعة 18-09-2015 21:03


منذ عدة أسابيع، دشّن المجلس الدولى للسُكان تقريره الدورى عن اتجاهات وآراء الشباب المصرى حول نفسه، وحول وطنه، ومشكلاته وطموحاته وأحلامه.

وهو وثيقة لا بد أن يقرأها الرئيس عبدالفتاح السيسى ورئيس الوزراء شريف إسماعيل، وكل مسؤول أو مهموم بالشباب المصرى حاضراً ومُستقبلاً. وحسناً فعل عدد من الوزراء الذين حضروا وشاركوا في مُناقشة نتائج التقرير، وفى مقدمتهم د. ليلى إسكندر، وزيرة التطوير الحضرى، ود. غادة والى، وزيرة التضامن الاجتماعى.

وكان لافتاً للانتباه مُبادرات ومجهودات وحماس شخصين ممن كانوا وراء إعداد التقرير، هما اللواء أبوبكر الجندى، رئيس الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، ود. راجى أسعد، أستاذ الإحصاء والسُكان في جامعة مينيسوتا الأمريكية، والذى كنت أعرفه منذ عدة سنوات، وتحديداً منذ المؤتمر الدولى للسُكان والتنمية، الذي استضافته القاهرة قبل خمسة عشر عاماً، والذى سأعود للكتابة عنه، لاحقاً في هذا المقال.

ولكنى كنت حريصاً على التعرف أكثر على اللواء أبوبكر الجندى، الذي لاحظت أثناء كلمته الافتتاحية في المؤتمر أنه ليس مُديراً أو رئيساً تقليدياً لإحدى المؤسسات العتيدة للدولة المصرية.

وكان حرصى للتعرف بالرجل، لأننى لمست من كلمته الافتتاحية روحاً مختلفة عن سابقيه ممن رأسوا الجهاز، وكانوا نكبة على البحوث والدراسات الميدانية في مجال العلوم الاجتماعية في مصر خلال ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضى.

ويبدوا أن نشأة الجهاز خلال الحقبة الناصرية، قد جعله منذ البداية يتصرف كامتداد لجهاز المُخابرات أو جهاز أمن الدولة، من حيث تكتّمه على ما لديه من معلومات، من ناحية، ومن ناحية ثانية، تحوطه الشديد في السماح لأى مواطنين آخرين عند مُحاولة جمع أي بيانات أو معلومات ميدانية عن أحوال مصر والمصريين.

وبذلك النهج من الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء بشأن ثقافة الشك ونظريات المؤامرة في كل من يُحاول إجراء بحوث ميدانية مُستقلة.

فكان الجهاز، على سبيل المثال، يطلب من الباحث الذي يرغب في جمع بيانات ميدانية عن أي جانب من جوانب حياة المصريين، ما يلى:

1ـ أن يتقدم بطلب مكتوب إلى الجهاز، يذكر فيه الغرض من الدراسة، وأدوات البحث التي ستعتمدها الدراسة، والأماكن، أو الشرائح الاجتماعية التي تشملها الدراسة، والأجل الزمنى المتوقع للدراسة.

2ـ أن يشفع طالب التصريح بطلبه شهادات أو وثائق يثبت بها صدق ما ورد في (1) أعلاه.

3ـ على الطالب أن يقدم طلبه قبل التاريخ المتوقع للدراسة بستة أشهر على الأقل.

4ـ وللجهاز أن يطلب من مقدم الإذن بالدراسة إدخال أي تعديلات على إطار الدراسة في افتراضياتها ومنهجيتها. وبعد تقديم التعديلات المطلوبة ينتظر الطالب الموافقة أو الرفض، الوارد من الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء.

5ـ وكان القانون ينص على عقوبات مالية وجنائية في حالة المُخالفة أو تجاوز الشروط المذكورة أعلاه.

وكانت خبرة هذا الكاتب (سعد الدين إبراهيم) كعديد غيره من العاملين في مجال البحث والدراسات الاجتماعية، هي أنه بين كل عشر طلبات يتم تقديمها للجهاز كانت تتم الموافقة على واحد فقط، أي عشرة في المائة.

وقد تواتر على رئاسة الجهاز في خلال الثلاثين سنة الأولى من تاريخه بعد ثورة 23 يوليو 1952 ثلاثة مُديرين هم: اللواء جمال عسكر، واللواء مختار هلودة، واللواء أبوبكر الجندى.

وكان مُجرد تعيين لواء من القوات المُسلحة على قمة الجهاز هو في حد ذاته إيحاء بأن عمل الجهاز لا يمكن أن يؤتمن عليه إلا شخصية عسكرية، وفى الغالب من المخابرات العامة. وهو أمر تأثرت فيه مصر، على ما يبدو بالاتحاد السوفيتى، وبقية بُلدان الكُتلة الشرقية في حقبة الحرب الباردة (1945-1975).

ورغم هذا التحوط المُبالغ فيه، هُزمت مصر في كل المواجهات العسكرية مع أعدائها في الخارج (1948-1949-1956-1967). نعم، رأس الجهاز على التوالى اللواء جمال عسكر، واللواء مختار هلودة، والآن اللواء أبوبكر الجندى.

وقد كتبت في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضى ضد تلك المُمارسات للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، وكيف أدت إلى تخلف البحث العلمى في المجالات الاجتماعية. ولكن كان ينطبق على هذه الكتابات المثل الدارج وكأنه لا حياة لمن تُنادى. بل وفى حالة تحدينا فيها الجهاز، في المركز البحثى الذي كنت أديره، وهو مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، أدى الأمر إلى القبض علىّ وعلى خمسة عشر من الباحثين في المركز، وحُكم علينا بالسجن سبع سنوات، قضينا منها ثلاث سنوات إلى أن برأت ساحتنا أعلى محاكم البلاد، وهى محكمة النقض، التي أقرت المركز على قانونية وشرعية ما يقوم به من دراسات، وأدانت نفس المحكمة أجهزة السُلطة التنفيذية على مُلاحقتنا ومُصادرتها للبحث العلمى الذي يتم بشفافية تامة.

المهم لموضوعنا أننى وجدت في اللواء أبوبكر الجندى نموذجاً مُختلفاً تماماً عن سابقيه في الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، فهو يؤمن قولاً وفعلاً بحُرية البحث العلمى وتداول المعلومات، وكان الدليل القاطع على ذلك استعانة الجهاز، ضمن من يستعين بهم من خارج الجهاز، بالدكتور راجى أسعد، الأستاذ بجامعة مينيسوتا الأمريكية، والذى لا يتأخر من جانبه عن تلبية أي طلب للجهاز، رغم أن الرجل هاجر من مصر إلى أمريكا، قبل رُبع قرن، وحصل على الجنسية الأمريكية. ومع ذلك، فإن من عرفوا الدكتور راجى أسعد يعلمون أنه مصرى حتى النُخاع. وينطبق عليه القول المأثور للبابا شنودة، أنه قد يعيش خارج مصر، ولكن مصر تعيش في أعماقه.

وحينما صارحت اللواء أبوبكر الجندى بخواطرى وذكرياتى المريرة حول الجهاز الذي يجلس على قمته، ابتسم الرجل، ولم يُكابر، وأقر أن تلكم كانت بالفعل الروح والمُمارسة التي حكمت الجهاز في الماضى، ولكن كل ذلك قد تغير، والدليل هو حرصه وحرص كبار العاملين معه على التفاعل المستمر مع الجماعة البحثية داخل مصر وخارجها. وصدّق د. راجى أسعد على ما قاله اللواء أبوبكر الجندى، وأن علىّ أن أزور الجهاز وأجرب بنفسى التعامل معه من جديد. وأضاف راجى أسعد أنه لذلك السبب، لا يتأخر الآن أبداً عن تلبية أي دعوة يتلقاها من الجهاز، ولا يبخل على الجهاز أو العاملين فيه بأى مشورة.

فبارك الله في أبوبكر الجندى وفى راجى أسعد، اللذين يُمثلان عُنصرين بارزين من قوة مصر الناعمة، التي يمكن أن تُباهى مصر بها بقية الأمم.

وعلى الله قصد السبيل

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية