شىء أعجب من أى خيال أن نرى الذين كانوا يصرخون بالأمس القريب أمام الكاميرات وخلف الميكروفونات وفى السرادقات ويقولون للناس: «إنه دستور عظيم نستحقه فانزلوا لتصوتوا عليه بنعم وارفعوا أصابعكم فى شمم ليخرق البنفسج عيون الإخوان وأذنابهم» هم الذين يتصدرون الآن مشهد المطالبين بتعديل الدستور رغم أنه لا يزال حبرا على ورق، هو فى واد والسياسات والقرارات فى واد آخر، وبدلا من أن يستعمل هؤلاء حناجرهم ولو فى مجرد همسة فى أذن الرئيس: «من الخطر إهمال الدستور والتصرف وكأنه غير موجود» ينفخون فيها لتطلق حروفا صاخبة: «تعديل الدستور ضرورى».
استبق هؤلاء حديث الرئيس عن «دستور النوايا الحسنة» بقصف إعلامى شديد كى يمهدوا لمعركة تعديل الدستور فور التئام البرلمان، وبات واضحا، لكل ذى عقل فهيم وعين بصيرة، أنهم ينفذون أوامر أو توجيهات سلطوية وأن أدوارهم محددة سلفا، ولو أحسن الرئيس صنعا لما التفت إلى كل من يحرضونه على التعديل أو يوافقونه على هذه الرغبة المحمومة، حتى لو كانت نفسه، أو ظنونه فـ «بعض الظن إثم».
إن المطالبات المتكررة بتعديل الدستور، والتى يرتفع صوتها أكثر كلما اقترب موعد الانتخابات البرلمانية، تعطى انطباعا عاما بأن هذه هى المهمة الأساسية لمجلس النواب المقبل، بما يفتح الباب أمام شكوك تتوالى حول هندسة نتائج الانتخابات على مقاس هذا الهدف الأساسى، وأن الأهداف الأخرى ستكون جميعها فى اتجاه تنازل البرلمان عن القيام بمهمته الرئيسية فى الرقابة والتشريع على وجه يكافئ مطالب الشعب وآماله، والأخطر هو تنازل البرلمان عن صلاحياته أو تقليصها بما يخل بالتوازن بين السلطات، على النقيض من المطلب الذى تبنته الحركة الوطنية المصرية منذ عقود من الزمن فى وجه دساتير جعلت من رؤساء الجمهوريات أنصاف آلهة، بيدهم الأمر والنهى، وكرست حكم الفرد الأمر الذى خلق حالة مزمنة من الاستبداد أثرت سلبا على كل مناحى الحياة، وشكلت بمرور الزمن جدارا سميكا مرتفعا يختبئ خلفه الفاسدون والمنافقون والمداهنون والملاينون، الذين يشيدون بنيان مصالحهم ومنافعهم الخاصة على حساب الشعب، وينحازون إلى الراهن رغم تعاسته وبؤسه على حساب المستقبل.
إن وضع الخطوط والخيوط والكلمات والتصرفات إلى جانب بعضها البعض يجعلنا نكتشف لماذا يجرى كل هذا بشأن الانتخابات كى تفرز من ينفذون هذا المطلب، أو ذلك الأمر، وهم اعتادوا أن يقولوا للرئيس «سمعا وطاعة» ولا يشغلهم أن هذا المسلك سيفتح باب الجحيم على السلطة الراهنة، لأنه سيظهرها بمظهر المتلاعبة بإرادة الشعب، والساعية إلى تكريس سلطانها ضد ما تقتضيه المصلحة العامة، والراغبة فى إعادة إنتاج الماضى فى وجه آت لا يريدون له أن يولد.
مثل هذه الحالة ستؤدى إلى انصراف الناس عن العملية الانتخابية المقبلة، فتتدنى المشاركة مرة أخرى، وينحسر ماء التيار الشعبى العريض النظيف، فتطل المستنقعات والبرك من جديد، ويقف على رؤوسها فريقان، الأول يضم أصحاب الأموال ممن ألفوا الزواج الحرام بين المال والحكم، فاستخدموا الثروة فى تحصيل السلطة، واستعملوا السلطة فى حيازة الثروة. والثانى يشمل أتباع التيارات الدينية التى توظف الإسلام فى انتهازية فاضحة للوصول إلى الحكم، والذين طالما استفادوا فى الماضى من انصراف أعضاء النقابات والهيئات عن الانتخابات فسيطروا عليها رغم أنهم قلة، قطرة فى بحر الشعب، وتقدموا حثيثا وفى تحايل وإصرار حتى وصلوا إلى أعلى سلطة فى البلاد.
إن الذين وضعوا الدستور الحالى، أو بمعنى أدق أدخلوا على الدستور الذى سبقه تعديلات جوهرية حسبما طلب البيان المؤسس لـ «خريطة الطريق» التى أعقبت الإطاحة بحكم الإخوان، إنما كانوا ينظرون إلى ما هو أبعد من فترة حكم رئيس قادم، وأرادوا أن يجنبوا الشعب كلفة دامية سيدفعها إن أراد إسقاط رئيس خرج على الدستور والدولة والمجتمع، لكن السيسى جاء محمولا على حديث لم يعش طويلا عن «عشرية من الحوكمة»، أى عشر سنوات يحكم فيها دون تحديد ولا تقييد، فوجد أمامه دستورا ينص على أن فترة الرئاسة أربع سنوات قابلة للتجديد عبر انتخابات لمدة واحدة، وينص على أن الرئيس لا يجب أن ينفرد بالقرار، بلا رقيب ولا حسيب.
ورغم أن الذين يطالبون بتعديل الدستور من بين الذين هللوا له بالأمس وحشدوا الناس لقبوله بغلبة ظاهرة يقولون «لا نريد تعديل مدة الرئاسة» فإن فتح الباب لتعديلات الآن يجعل احتمال التلاعب فى هذه المسألة قائما، مثلما سبق أن فعل السادات فى دستور 1971، فعلى الأرجح سيخرج علينا من يقترح مثل هذه المسألة ضمن مسائل أخرى، وسيجد هؤلاء شعار «كمل جميلك» رغم تغير الظروف واختلاف المقصد.
وحتى لو لم يمتد التعديل إلى مثل هذه المسألة فإن عداء أنصار التحرش بالدستور الصريح لبعض مواده، التى يزعمون أنها تقلص من صلاحيات الرئيس، سيفتح بابا عريضا لعودة الاختلالات التى كانت سائدة فى نظام الحكم، والتى تراكمت وازدادت غلظة بمرور الزمن حتى اتسعت الهوة بين مبارك والشعب فثار عليه، ورفع فى وجهه شعار «ارحل» ولم ينفك حتى نال ما طلب.
إن هؤلاء المتعجلين بحجج واهية لتعديل الدستور لم يطرحوا على أنفسهم بعض أسئلة من قبيل: ماذا لو لم ينزل الناس بغزارة فى هذا الاستفتاء على التعديلات الذى يمهدون له؟ أو نزلوا بمستوى مشاركة منخفض للغاية أو أقل بكثير من نسبة القبول التى حازها الدستور من قبل؟ أليس فى هذا جرح خطير لشرعية السلطة؟ وماذا عن صورة الرئيس فى عين الذين انتخبوه على أساس هذا الدستور ولا يزالون ينتظرون منه الالتزام به؟
إن نوايا الذين وضعوا هذا الدستور كانت حسنة من دون شك، لكن نوايا الذين يطلبون الآن مثل هذه التعديلات ويهللون لها تظل سيئة، ولن يذهب هذا السوء حتى يقلعوا ويعرضوا عما عزموا عليه، ومن الضرورى أن يفهموا جيدا أن الإصرار على تعديل الدستور يفتح على بلادنا باب جهنم، فأوصدوه يرحمكم الله والناس.