خرج الركاب من الطائرة فوجدوا لافتات الترحيب بعدة لغات تقول لهم: أهلاً بكم فى مطار ستوكهولم. جرَّ الأستاذ مسعود حقيبة اليد وأسرع مع المسرعين فى الطريق إلى الجوازات. الطوابير طويلة، ومن الواضح أن عدة طائرات قد هبطت فى أوقات متقاربة فأحدثت هذا الزحام. وقف فى دوره ممسكاً حقيبته الصغيرة التى تحوى أدويته كلها فى يد، وفى اليد الأخرى تليفونه المحمول منتظراً أن يدق معلناً عن مكالمة من ابنه الذى ينتظره بالخارج. كان علاء الابن الصغير للأستاذ مسعود قد دعاه لزيارته بالسويد التى هاجر إليها منذ خمس سنوات، حيث تزوج وأنجب فتاة جميلة تقف بانتظار خروج جدها ومعه الهدايا التى وعدها بها فى التليفون. لم يكن الأستاذ مسعود الناظر بالمعاش يهوى السفر، لكنه استجاب لدعوة ولده بعد أن تزوج أبناؤه، ثم توفيت أم العيال، وخلا البيت عليه. دق جرس الموبايل فأوشك مسعود أن يرد قبل أن يكتشف أن نغمته يشترك معه فيها الراكب الذى يقف أمامه بالطابور. علا صوت الرجل الذى كان يتحدث العربية بلهجة شامية وهو يقول: شو؟ أنا لا أفهم، تمالك نفسك يا بنى وقل لى ماذا حدث.. غارة.. براميل؟ لا تخف يا ولدى واهدأ.. تماسك فأنت الكبير حتى لا تنقل الرعب لإخوتك الصغار، صدقنى سوف تمر الغارة بسلام كغيرها وسوف تلحقون بى قريباً، وحياة الله، لقد أنجزت كل شىء.. أعطنى أمك بسرعة. نظر الأستاذ مسعود للرجل فأبصر وجهه قد امتقع وبدت عليه كل آيات الهلع ثم سمعه يقول: لا تصرخى أرجوكِ من شان الولاد، خذيهم وانزلى بهم للسرداب.. الله بيستر، الله بيستر.
انقطعت المكالمة وظل الرجل يحاول مع التليفون الذى فرغت شحنته، ثم بعد أن تأكد من عبث المحاولة ألقى التليفون على الأرض ودهسه بقدمه ثم تهاوى إلى جانبه وانفجر فى البكاء. نزل الأستاذ مسعود على الأرض إلى جانبه وسأله بلهفة: ما الأمر؟ قال الرجل السورى فى ذهول: سمعت صوت الانفجار قبل انقطاع الخط.. سمعت صوت الانفجار. طمأنه مسعود وأعطاه تليفونه ليعاود الاتصال وهو يردد: إن شاء الله خير.. إن شاء الله خير. أمسك الرجل التليفون بيد مرتعشة وحاول أن يستجمع شتات نفسه ليتذكر الرقم ثم طلب النمرة وانتظر..لا أحد يرد..لا أحد يرد. قال مسعود: أكيد خرجوا من البيت..اطمئن وصلِّ على النبى. قال الرجل فى حرقة: وبماذا تفيد الصلاة على النبى؟ إن الذين يكثرون من الصلاة على النبى قد شرَّدونا وخربوا بيوتنا، والذين لا يعرفون النبى هم الذين يقدمون لنا العون. قال هذا ثم شرع يطلب رقماً آخر..قال: سأطلب أختى لعلها تعرف شيئاً. كان مسعود يتابع الموقف بعينين دامعتين وكيانه كله يرتعد من هول الموقف. حاول أن يُطمئن الرجل لكنه نفسه كان فى حالة سيئة. أخرج من حقيبته دواءً، ابتلع قرصاً منه وأمسك دواءً آخر، ووضع حبة تحت لسانه. صرخ الرجل السورى فى التليفون وهو ملقى على الأرض والركاب يتابعونه: ماذا؟ البيت انهار، صار كومة تراب..أولادى يا الله..أولادى يا الله.
وضع الرجل رأسه فى الأرض وأخذ ينتحب وجسده يهتز هزات قوية. تجمع الناس حوله فى فضول وهرع بعضهم يطلب له المساعدة من سلطات المطار، لكن وسط اهتمامهم بالرجل السورى المكلوم فاتهم أن ينتبهوا إلى أن الأستاذ مسعود الجالس إلى جواره قد أسلم الروح وفارق الحياة!