x

حسن حنفي «فَلا يُسْرِفْ فِى الْقَتْلِ» صدق الله العظيم حسن حنفي الأربعاء 16-09-2015 21:33


تتكرر الأحداث باعتبارها وقائع مثالية لها دلالات تتحول إلى قوانين. منها «الإسراف فى القتل». القتل نفسه يتحول إلى إعدام. والإسراف يتحول إلى جهاد. ويجد القتل تبريره فى القصاص مع سوء فهم له وكأنه مجرد قتل فى مقابل قتل. وقد نسى أنه قبل القتل هناك إمكانية العفو من أهل القتيل أو دفع الدية حقنا للدماء. فالقصاص من بقايا القانون الرومانى القديم. والدية من بقايا القانون الفارسى القديم. والعفو من إضافة الشريعة المسيحية الجديدة. فجعل القصاص الإسلامى اختيارا واحدا هو تفسير يهودى رومانى للقصاص الفارسى فى جو استبدادى من الحاكم وتخويف للمحكوم. فذبح الرأس على الفرد دون جريمة أو تهمة أو محاكمة أو دفاع مثل التفجيرات الجماعية وهدم المنازل على الأطفال والنساء والشيوخ. وهكذا يكون الدم بالدم، والعنف بالعنف، والقتل بالقتل. وكلا الجريمتين ضد المقصد الأول من مقاصد الشريعة وهو الحفاظ على الحياة حتى فى القصاص «وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِى الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». حتى النبى الذى لديه القدرة على الحكم بالإعدام أطلق هذه العبارة الشهيرة التى تعلمناها ونحن صغار فى المدراس كنموذج للتسامح «اذهبوا فأنتم الطلقاء» من منطق قوة وليس من منطق ضعف كسباً للقلوب قبل كسب المدن. وقد قيل فى المثل العامى «العفو عند المقدرة». وإن لم يحدث العفو المتبادل لأصبح الإسلام استمرارا لليهودية، دين الشريعة، أكثر منه استمرارا للمسيحية استمرارا للعفو. وضاعت المعانى الخالدة للوصايا على الجبل والتقابل بين الشريعة والمحبة. واستمر الجانب الصورى فى اليهودية وضاع الجانب الوجدانى فى المسيحية. ومهما صاغ هيجل نظرية الحق، القانون الموضوعى لتجاوز القانون الذاتى، المسيحية، يحاول الاقتراب دون أن يعرف من نظرية الحق الموضوعى الذاتى كما فعل فى علم المنطق: الحق الموضوعى، الحق الذاتى، الحق الذاتى الموضوعى. القانون الذاتى مثل الميراث والقرابة والصداقة، والقانون الموضوعى مثل الدولة والجيش والقضاء.

الرد على القتل بالقتل يولد الانتقام باسم القصاص. ويتم قتل أحد من عائلة القاتل باسم الانتقام. ثم يتم الانتقام من أحد أفراد القاتل الأول إلى ما لا نهاية. وهو إسراف فى القتل. والعادل كان فى حاجة إلى من يوقف هذا المسلسل الدموى بالعفو أو الدية. وإلا فما معنى كل الجهود لإيقاف الثأر بين العائلات أو القبائل؟ وتصرف فيه الأموال وتضيع الجهود لمنع القتل البديل؟ وتفسير الإسلام بروح اليهودية بعيدا عن تفسيره من خلال روح المسيحية أو ضم الروحين معا فى روح إبداعية جديدة هى روح الإسلام.

ويقع الإسراف فى القتل عندما يكون الحكم ظلما. فالحكم العادل لا يكون ظلما، وبالتالى لا يكون فيه إسراف فى القتل. ويكون فيه تسييس للحكم ضد أعداء النظام مباشرة أو غير مباشرة. يطلب رأس النظام من وزير العدل أو قاضى القضاة ما يطلبه من عقوبة على المقبوض عليهم حتى يكون درسا لغيرهم. فالنظام السياسى هو الذى يتحكم فى النظام القضائى من خلال النظام التنفيذى. وهو النظام التشريعى الذى يضع القوانين، يشرعها، وينفذها، ويحاكم من يعصيها. فهى سلطة واحدة فى الدولة. وعادة ما تكون سلطة دينية باسم الدين أو سلطة عسكرية باسم العسكر. والخارجون على النظام الدينى كفرة، والخارجون على النظام العسكرى خونة. وعلى طول التاريخ اتحدت السلطتان، قريش والجيش، العمامة والقبعة. لا إله إلا الله، ولا إله إلا السلطان. فالله سلطان، والسلطان إله. وقد يصدر الحكم بالقتل من أهواء القاضى التى لم يتخلص منها. وهو برداء القضاء لا يشك أحد فى حكمه. وتضم كل سلطة فريقا يؤيدها. تضم قريش رجال الدين ومؤسساته، والدين ليس به إلا علماء، أفراد للقياس وجماعات للإجماع. والعسكر سلطتهم على الحدود دفاعا عن البلاد وليس فى الداخل منافسة للقوى السياسية.

ويقع ضحية القتل من الطرفين، القاتل والمقتول أولا ثم المقتول والقاتل ثانيا أبرياء لا شأن لهم بالصراع السياسى الذى يدور حوله القتال، ضحايا القذف بالطائرات من أعلى، وضحايا التفجيرات من أسفل. والأبرياء ليسوا فقط مرتكبى العنف بل المدنيين الذين يقعون فى الشباك. ويضاف أبرياء القتل عنفا إلى أبرياء الموت بحوادث الطريق والأمراض والجوع والعطش والعرى والانتقام. وربما الانتحار يأسا أو الغرق موتا فى الطريق إلى الهجرة غير الشرعية.

ولقد قامت ثقافات بأكملها على إلغاء الإعدام لأن حياة الإنسان مقدسة. ولا يستطيع أحد أن يأخذها. الجسد ملك للإنسان كله أو جزئه. وهناك ثقافات حفظ الجسد حيا أو ميتا. وهى التى لديها شرائع الأجساد الحية، ومراسم الأجسام الميتة، الغسل والكفن والدفن. الحى مثل الوضوء والاستحمام ونتف الإبطين وحلق العانة. وكلها مسائل طبية خالصة، يؤيدها الطب أو ينفيها أو يقف على الحياد فيها. أما نحن فظللنا فى ثقافة الجسد إيجابا وسلبا، طهارة ونجاسة، حياة وموتا. الثواب جسدى، والعقاب جسدى. وهذا هو الذى انتهى إلى قطع الرؤوس وقبلها قطع الأيادى والأرجل. بل إن الثواب والعقاب الأبديين حسيان، مما دفع الصوفية إلى تأويله إلى نعيم وعذاب روحيين. والعجيب أن الثقافة الغربية المعاصرة تحولت من ثقافة النفس، فى الفلسفة المعاصرة، إلى ثقافة البدن. وأصبح الإنسان يوجد ويتحرك ويتكلم ويحب ويحس من خلال الجسد. ونحن مازلنا فى ثقافة الروح ولكن يأسرنا البدن، ومشاكلنا البدن فى الجوع والعرى والمرض. مشاكلنا العشوائيات بالملايين بينما هربت الآلاف بالروح إلى المدن الجديدة. تتحدث فى النفس وتجعلها جوهر الخطاب الدينى بانفصالها عن البدن. النفس خالدة والبدن فان.

ولا يسرف فى القتل من كان منصورا، ومن يتأكد من النصر لا يسرف فى القتل، لأن القتل وسيلة وليس غاية، ومن يتأكد أن الشعب معه «فَلاَ يُسْرِفْ فِى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا». فالأمن ليس عسكريا بل هو أمن نفسى أيضا. ومن يتأكد من المحكوم أنه منصور لا يسرف فى القتل. فالقتل مظهر من مظاهر الضعف والتعويض عن ضعف الحق بقوة البدن. فالجسد مظهر من مظاهر القوة لأنه حضور ومقاومة.

والقتل له مظاهر عدة. القتل بالتعذيب وهو القتل البطىء، وهو التقتيل. والقتل بقطع الرأس وهو القتل السريع، والقتل الحديث مثل الشنق وإطلاق الرصاص وهو الإعدام. والبعث الجسدى مقاومة لإعدام الجسد، والتحول من تراب إلى حياة ردا على سؤال «قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ». وهو خلود للجسد فى عالم آخر. يقاوم جميع مظاهر الموت. فالخلود ليس فقط للأرواح ولكن أيضا للأجساد، خلودا حسيا أو معنويا وهو خلود الشهداء الذين قتلوا فى سبيل الله «وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ».

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية