أعتقد أن أقل رد من المواطن على طلب ما يُسمى الحوالة البريدية هو طُظ فى الحوالة البريدية، وطظ فى ذلك الذى اخترعها، وطظ فيمن يصر على استمرار العمل بذلك المفهوم الردىء، وطُظ فى الروتين، وفى البيروقراطية، وفى ورقة الدمغة، وفى العرضحال دمغة، وفى طوابع التبرعات الوهمية، وفى الوزراء المترهلين، وفى الوكلاء الأغبياء، وفى المديرين العفشين، وفى الموظفين المرتشين، وفى كل القوانين واللوائح التى عفى عليها الزمن، بعضها منذ الاحتلال التركى، وبعضها الآخر منذ الاحتلال الإنجليزى، والبعض الثالث منذ الاحتلال الفرنسى، ومازال الاحتلال مستمراً، أقصد عقلية الاحتلال مستمرة، مدنياً كان أو عسكرياً.
تجربة سريعة ومثيرة فى مبنى الإدارات التعليمية بميدان العباسية تكشف عن البيروقراطية، والفساد، والترهل الإدارى، والغباء الحكومى فى آن واحد، تكشف أن الحوالة البريدية هى أصل الأشياء، هى كلمة السر، هى الاختراع العبقرى لإعاقة أو إنجاز أى شىء، بكل بساطة وفى بلد بزحام وعكننة القاهرة، لابد وحتماً تقوم بعمل حوالة بريدية بمبلغ ٣٠ جنيها فقط لا غير قبل بدء الحديث فى إنهاء أى معاملة، حتى الآن يمكن أن تسير الأمور، لا عجب فى ذلك، الغريب هو أن هذه الحوالة لابد وحتماً تكون من مكتب البريد الواقع خلف محكمة مصر الجديدة بميدان المحكمة، هذه الحوالة الفرض والواجب والضرورة لا يمكن إنجاز أى طلب أو تحويل أى طالب بدونها، من خلال هذا المكتب تحديدا ولا شىء غيره.
فى كل مبنى الإدارات التعليمية بالعباسية، المتخم بالإدارات والموظفين فى آن واحد، لا يوجد موظف يمكن أن يقوم بتحصيل قيمة هذه الحوالات، عشرات ومئات وممكن آلاف المواطنين فى اليوم الواحد ذهابا وإيابا من العباسية إلى مصر الجديدة والعكس، لعمل هذه الحوالة السحرية، هو ترويض للمواطنين للتأكد من أنهم ينفذون التعليمات، وممكن يكون الهدف رياضياً، دعهم ينشطوا، وممكن يكون الهدف رواجا اقتصاديا، يركبون تاكسيات، يدفعون أجرة، يستهلكون «بنزين» بسياراتهم الخاصة، من الآخر: حال البلد يمشى، وممكن يكون الهدف الانتقام، هذا الشعب المفترِى لازم يلف السبع لفات، ولِمَ لا؟!
يوجد موظف مخصوص يقوم بتحصيل جنيه واحد تحت بند المشروعات على أى طلب، لكن فى حالة الثلاثين جنيها الموضوع كبير، اذهب إلى مصر الجديدة، دوخينى يا لمونة ليس أكثر ولا أقل، تجربة نقل تلميذ ابتدائى كما رواها لى أحد الأصدقاء أكثر من مثيرة، التلميذ فى طريقه إلى الصف السادس، هذه شهادة الصف الخامس، بعد اعتمادها من المدرسة، لابد من ختم النسر من الإدارة التعليمية ببيانات واضحة حول المواد الدراسية والدرجات وخلافه، وبالمستوى الرفيع، حتى الآن قد لا توجد مشكلة أيضا، مطلوب الآن وبعد ذلك ما يفيد بأنه حصل على السنوات الدراسية الأولى والثانية والثالثة والرابعة، واعتمادها بنفس الطريقة ونفس تفاصيل مفردات المواد، السؤال هو: كيف حصل على شهادة نجاح الصف الخامس ولدينا شكوك فى أنه لم يدرس السنوات التى سبقته؟!
الأكثر إثارة ما هو قادم، التلميذ حصل على (كى. جى1، وكى. جى2) من مدرسة أخرى، مطلوب شهادة لكل عام بنفس التوثيق، وبنفس الطريقة المملة من الإدارة التعليمية الأخرى التابعة لها تلك المدرسة، السؤال هو: ماذا لو لم يكن حصل على هذه الشهادة العليا فى الكى. جى؟ ألن يتم نقله، هذه هى شروط ومواصفات المدرسة الجديدة، أو التعليم فى العصر الحديث، ولك أن تتخيل حجم التوقيعات من هؤلاء القابعين فى مكتب واحد، ثم الأختام الأولية، قبل ختم النسر الفاصل، والباتع، والشامخ، والذى يتم تتويجه فى النهاية ليس بأقل من تعظيم سلام، وتنهيدة طويلة مع التشهُد، والإسراع بالهرولة فى الشارع للحاق بموظفى المدرسة المبتغاة قبل هروب، أقصد خروج، الموظفين.
نحن هنا أيها السادة لا نستهدف المدارس بعينها، ولا حتى الإدارات ولا المديريات التعليمية، نحن نتحدث عن البيروقراطية فى بر مصر، الحكومة الإلكترونية أصبحت فى كل بلدان العالم المتخلف الآن، حكاية الملفات والدوسيهات، والأوراق التى قرضتها الفئران، والدمغات والحوالات والتبرعات عفى عليها الزمن. حكاية الإكراميات والرشاوى، وشخشخ جيبك، وفتّح مُخك يجب أن تنتهى إلى الأبد.
منذ ما يقرب من نصف قرن من الزمن ونحن نسمع تعبير الشباك الواحد لقضاء مصالح الناس، سمعناه فى كل المجالات، فى الاستثمار بصفة خاصة، فى الصناعة، فى التجارة، فى تملك الأراضى، فى إنشاء الشركات، لم يتحقق هذا الحلم فى أى اتجاه من هذه المشار إليها، على الأقل كان يجب تحقيقه فيما يتعلق بمصالح المواطنين اليومية، هذه هى الثورة الحقيقية التى تحتاجها مصر، ليت الناس تنزل إلى الشوارع لسبب وحيد، وهو تراكم القمامة مثلا بالشوارع كما حدث فى الشقيقة لبنان، ليت الهدف من النزول إلى الشوارع يكون القضاء على البيروقراطية، مواجهة الفساد، نحن لا نتحدث عن تغيير نظام الحكم، هى عملية مُكلفة إلى حد كبير، من الأرواح والمال والمنشآت، فقط نريد أن نشعر بالآدمية، باحترام عقولنا، ليت رئيس الوزراء يتبنى هذه القضية بصفة شخصية، أعتقد أنها تستحق.
فى الوقت نفسه أعتقد أن الحوالة البريدية فى حد ذاتها فى حاجة إلى ثورة، وبصفة خاصة إذا كان شرطاً أن تكون من مكتب بريد مصر الجديدة!.