أنا من عشاق قصص «شريف رفعت» المهندس الذى يعيش فى المهجر. هذه القصة رائعة بحق وستعجبكم جدا.
سألتنى المضيفة الحسناء عن بطاقتى وأرشدتنى لمقعدى بجوار النافذة. وضعت حقيبتى فى الخزانة العلوية المخصصة للمتاع وجلست أتأمل ما حولى. الطائرة شبه ممتلئة، المقعد بجوارى ما زال شاغرا، تمنيت أن تجلس به حسناء متحررة مرحة تحب الحديث مع جارها فى السفر والذى هو أنا!
لحظات ورأيته! طويل وسيم يرتدى بذلة أنيقة ونظارة طبية ذهبية تضفى مهابة على ملامحه، شعره أشقر يتخلله بعض الشيب وينسدل على جبهته. يبدو فى أوائل الخمسينيات، هو باختصار كل شىء ليس أنا! طوله! شعره! أناقته! جو الأهمية الذى يحيط به نفسه! والحقيبة الجلدية الثمينة التى يحملها. توجّه إلى المقعد المجاور لى دون أن يكلف نفسه عناء تحيتى. بينما انزويت أنا فى ركن مقعدى مع آمالى المحطمة بخصوص جارة حسناء.
فتح جارى عينيه، انحنى على حقيبته وأخرج منها مجموعة ملفات ثم أخرج من جيب سترته قلم حبر ثمينا من النوع الذى توقفت الناس العادية عن استخدامه منذ سنوات وأخذ يراجع الملفات التى معه، ويكتب بعض الملاحظات عليها من وقت لآخر. بالتأكيد هذا الرجل إما مدير مهم فى إحدى المؤسسات الكبرى يراجع تقارير مؤسسته أو رئيس قسم فى إحدى الجامعات يُصحّح رسائل جامعية يشرف عليها. عُتّمـَت أضواء الطائرة وبدأت فى التحرك للإقلاع. أضاء جارى المصباح العلوى فوق رأسه واستمر فى مراجعة أوراقه باهتمام، بينما أغمضت أنا عينىّ وقررت النوم.
العتمة والهدوء يسودان الطائرة، وفجأة من تحت جفنىّ نصف المـُغـْمـَضين رأيت وجه طفلة صغيرة يظهر من فوق مسند المقعد الذى أمام مقعدنا. وجه صغير جميل برىء يضىء عتمة الطائرة، تبدو فى الثانية من عمرها، عيناها كبيرتان جميلتان متسائلتان. ابتسم لها جارى ابتسامة حانية، نظر تجاهى نظرة جانبية دون أن يلتفت بوجهه، عندما اعتقد أنى نائم لوح للصغيرة بيده فابتسمت، أخذ الرجل يرسم تعابير مضحكة على وجهه مستخدما عينيه وشفتيه وأحيانا لسانه. الصغيرة نظرت إليه أولا باستغراب ثم انفجرت ضاحكة، من جوارها جاء صوت أمها نصف نائم «اهدئى حبيبتى، لا تزعجى الركّاب، الأحسن أن تنامى».
بالطبع البنت لم تلتفت لكلام الأم واستمرت فى الضحك والنظر بشغف لجارى المهم، مد جارى يده إلى مسند مقعدها وحرك أصبعيه السبابة والوسطى على قمة المسند كما لو كانا ساقين صغيرتين تسيران أمامها، ضحكت البنت بصوت أعلى وقد أعجبتها اللعبة. أمسك جارى بأحد الملفات التى كان يراجعها وأخفى به وجهه للحظات حتى ظهر التساؤل على وجه الصغيرة ثم فجأة أزاح الملف ليظهر وجهه وعليه تعبيرٌ مضحكٌ فقهقهت الصغيرة سعيدة مذهولة! صوت ضحكاتها البريئة المنطلقة كان الصوت الوحيد المسموع فى هدوء وصمت الطائرة. وأنا مستمر فى ادعاء النوم نظرت بعينىّ نصف المغمضتين لوجه جارى، هناك فرح طفولى برىء على وجهه لا يتناسب مع مظهره الرسمى المرسوم.
استمر جارى فى مداعبة الصغيرة واستمرت هى فى الضحك بينما غفوت أنا فى مقعدى. عندما استيقظت وجدت الصمت يسود المكان ورأس الصغيرة قد اختفى، واضح أنها نائمة فى حجر أمها. جارى أيضا كان مستغرقا فى النوم، تأملت وجهه والذى ارتسمت عليه ملامح ضعف إنسانى. تحت نظارته الطبية الثمينة كانت هناك دموع تبلل خديه.