x

جمال الجمل المثقف والرئيس جمال الجمل الإثنين 31-08-2015 22:07


1-

سهر طوال الليل يدون ملاحظاته، ويعد تقريرا تفصيليا عن الأخطاء التي تعوق التطوير، ففي الغد سيقف وجها لوجه أمام الرئيس، حينها يمكنه أن يتجنب بطانة السوء، و«الفلاتر» التي تحجب المعلومات الواقعية عن الرجل الكبير، وتجعله يعيش في فقاعة ملونة من المغالطات المقصودة.

لا شك أن الرئيس (أي رئيس) عندما يجد أمامه معلومات سليمة، فإنه سيستخدمها لتصحيح مساراته، واتخاذ القرارات الصحيحة التي تعود بالنفع عليه كرئيس ناجح يحقق أعلى معدل من الرضا بين مرؤوسيه.

في الصباح ارتدى المثقف بدلته الأنيقة، ووضع في جيبها التقرير الذي أعده، ونظر في المرآة مبتسماً، فاليوم مفعم بالأمل في توصيل خطة الإصلاح للرئيس.

أثناء اللقاء أتيحت له الفرصة للوقوف أمام الرئيس وجهاً لوجه، لم يضيّع الدقائق المعدودة في عبارات الإعجاب والنفاق، ولم يفكر في ألفاظ التودد والتقرب، قال ملاحظاته بدقة واختصار، وبدا التوتر على وجه الرئيس الذي لم يفهم شيئا مما قيل، واختتم المثقف ملاحظاته بالخطوة الأكثر عملية التي سهر في إعدادها طول الليل، مد يده في جيبه، وأخرج التقرير وقدمه للرئيس وهو يقول: التقرير ده فيه كل حاجة تساعد سيادتك على الإلمام بالموقف.

ظهر ارتباك الرئيس في الرد العجيب الذي قاله للمثقف: التقرير ده تلفه كويس، وتحطه في ................... «جيبك».

2-

في الجلسة الموسعة كان الرئيس يستمع إلى قصائد المديح من عشرات المثقفين، ويرفع يده بكبرياء وعظمة محييا الأيادي التي التهبت من كثرة التصفيق، واستمر سيادته يفيض بالحكمة الجاهلة، والأرقام الملفقة، والتصريحات المحفوظة.

عبث من النوع الرخيص، حتى بدت الاحتفالية كأنها طقس انتقامي من ذلك المثقف الذي شرد عن السرب، وقال ما لا يجب أن يقال.

3-

لا يهم أن يكون الرئيس الذي نتحدث عنه، رئيس دولة أو رئيس شركة، ولا يهم أن يكون التقرير خطة للإصلاح الديموقراطي والدستوري، أو مشروعاً للإصلاح الوظيفي والإداري، لا يهم الأسماء، المهم هو المغزى، هو طبيعة العلاقة بين الرئيس وبين المثقف، بين صاحب القرار والمستشار، بين السلطة والعلم، بين القوة والعقل.

4-

في نهايات القرن العشرين، وبالتحديد في عام 1993 فاز شاعر مصري كبير يبلغ من العمر 66 سنة بجائزة الدولة التشجيعية في الشعر. كان الأمر أشبه بنكتة تلخّص تجمد الزمن في دولة «الرئيس المزمن».

وفي معرض الكتاب بعدها بشهور أبلغوا الشاعر بضرورة الاستعداد لحضور لقاء الرئيس، يومها سألته: الجائزة عبارة عن إيه يا عم مهران؟

كان الشاعر الثائر محمد مهران السيد يقيم وحيدا بعد كل هذا العمر في شقة مفروشة بميدان الجيزة، وكان يكد في عمله بأحد مكاتب الصحف العربية ليسدد التزاماته الشهرية، مثل أي شاب يبدأ حياته، فأجابني ساخرا: إنها جائزة مصافحة الرئيس.. إنهم ينعمون علينا بالطلة البهية لسيادته وليس أكثر.

لم يعبر العم مهران بوابة الألفية، ولم تشفع له جائزة مصافحة اليد النظيفة، فمات غريبا وحيدا في وطنه.. في وادي الملح.. في زمن الرطانات.

5-

لماذا أصبحنا من أقل دول العالم في الأداء الاقتصادي؟

لماذا انكمشنا طوال 15 سنة تحت معدل تنمية لم يتجاوز نسبة 3.5 %، بينما تحقق دول أصغر وأحدث أضعاف هذه النسبة؟

سأل المثقف الرئيس، ولم ينتظر إجابته، فقد خرج عن كل التوقعات وتجنب الأرقام والحديث عن الفساد، وفاجأ الرئيس المنتشي، بالحديث عن شيء غريب جدا اسمه «كرامة المصريين».

«نحن نعيش المهانة في بلد مهان».

هكذا قال الدكتور محمد السيد سعيد للرئيس مبارك في عنفوان موجة التوريث، والفعل الشعبي المضاد لتعديل المادة 76 من الدستور.

يومها ضرب السعيد مثلا باعتقال أعداد تتراوح بين 2000 إلى 5000 سيناوي من أبناء العريش بعد تفجيرات طابا، وأشار إلى وقائع تعذيب محملا الرئيس مسؤولية الحفاظ على كرامة المصريين وفقا للدستور.

ويومها قدم مبارك دليلا دامغا على رؤيته (الأصح عدم رؤيته) للبلد الذي يحكمه منذ ربع قرن، فقد رد على الدكتور ساخرا: بتقول اعتقلنا 5 آلاف سيناوي، دي سينا كلها ما تجيش 5 آلاف!.

وأنهى مبارك حديثه بموعظة للمثقفين المصفقين: ما تضيعوش البلد من إيديكم.. الجماعة اللي بيتكلموا كتير عن الإصلاح عايزين البلد ترجع إلى ما قبل 1952 لما كانت الحكومات بتقع كل 6 أشهر.. هل تريدون هذا الوضع؟

رد السعيد: يا ريس قبل 1952 كان الملك يريد الاستئثار بالسلطة فانقلب سبع مرات على الدستور، وعلى أي حال أنا لدى تصور سأقدمه لسيادتك في ورقة مكتوبة عن الإصلاح السياسي والدستوري.

قال الرئيس على الملأ: الورقة دي حطها في.. «جيبك».. أنت متطرف وعلى فكرة بقى أنا بافهم أحسن منك.

6-

مصيبتنا ومصيبة بلدنا أن الرئيس يفهم أكثر من الجميع/ الرئيس يأمر ولا يناقش/ الرئيس فوق الجميع/ الرئيس..............،، بينما المثقف إما لطيف وناجح ويجيد التصفيق (وهذا محل رضا وتقدير من الرئيس وحاشيته)، أو معارض ومناكف، ويتحدث بواقعية عن الإصلاح والمستقبل (وهذا عليه أن يحط لسانه في بقه وأوراقه في...... جيبه).

7-

سؤال عن هذا المقال: أحطه فين ياريس؟.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية