مررت فى دمشق على كوبرى قصير، لا يتجاوز طوله عشرة أمتار، ومن تحت الكوبرى كان هناك ممر مائى ضيق، ينساب ماؤه فى هدوء، وكان تيار الماء محدوداً للغاية، وتكاد وأنت تمر لا تلتفت إلى الممر، ولا إلى الماء المنحسر عند القاع فى حياء!
تذكرت فجأة أن صديقاً سورياً كان معى فى الطريق من مدينة حمص إلى دمشق، بامتداد ما يقرب من مائتى كيلومتر، وأنه كان يحدثنى، على طول الطريق، عن نهر بردى، الذى يشق العاصمة السورية، والذى كان ولايزال من معالمها الرئيسية التى لا يمكن محوها من عقل كل شخص زارها.
ورغم أنى رأيت «بردى» من قبل، فى زيارة سابقة لسوريا، إلا أنى لأسباب ليست واضحة، تخيلته هذه المرة كنهر النيل عندنا فى القاهرة تماماً.. ربما لأن اعتيادنا منظر النيل الخالد وهو يشق البلد، من عند حدود السودان معنا، إلى الإسكندرية، قد جعلنا نعتقد أن هذا هو النهر، ولا نهر غيره، وأن الأنهار فى العالم تُقاس عليه، ولا يُقاس هو عليها!
وتذكرت أيضاً أن أمير الشعراء أحمد شوقى قد بقى إلى رحيله فى سنة 1932 يتغزل فى «بردى» ولا يكاد يذكره فى واحدة من قصائده، حتى يعود إليه فى قصيدة جديدة!
لم أتوقع أن يكون الممر المحدود، الذى مررنا من فوقه، هو نهر بردى بعينه، ولا توقعت أبداً أن يكون هذا التيار المائى الخجول هو كل ما عند إخوتنا السوريين من ماء يجرى فيه.
لقد كان الصديق السورى، فيما بين حمص ودمشق، يحدثنى عن النهر، حديث العاشق للمعشوق، وفى اللحظة التى مررت فيها، من فوقه، رأيت بعينى أن صديقى ليس وحده الذى يعشق هذا النهر الشهير عندهم، وأن الدولة كلها تشاركه العشق ذاته، وأن هذا العشق قد تجلى فى صورة اهتمام بمجراه، لا يمكن أن يكون اهتماماً عادياً، ولا يمكن إلا أن يكون اهتماماً من دولة واعية، ثم من مواطنين بعدها، ووراءها، ومعها، يعرفون معنى أن يكون فى عاصمة بلادهم نهر، ويعرفون أيضاً قيمة أن تكون فى هذا النهر قطرة ماء واحدة!
اهتمامهم بقطرات الماء فيه بدا لى واصلاً إلى حد يكاد معه كل واحد فيهم، يغلفها، قطرة.. قطرة.. ثم يضعها فى برواز، احتفاءً بها، وإدراكاً لقيمتها فى الحياة!
طافت صورة النيل الخالد فى ذهنى، وسألت نفسى عن حجم عائده، فى حياة أصحابه، لو كان يجرى فى أرض أخرى، غير أرضنا، ولو كان له أصحاب آخرون سوانا!
فى دمشق، تشعر، ثم ترى، أن بردى له صاحب يخاف عليه، وأن كل سورى يتعامل معه، على أنه نهره الخاص الذى يملكه، وأنه، كمواطن، مكلف بحراسته، وحمايته.. وفى القاهرة، لايزال نيلنا الخالد يبحث عن صاحب عند حكومتنا ومواطنيها معاً.. لايزال بكل أسف!