x

جمال أبو الحسن العصرُ الذهبى ليس ذهبياً! جمال أبو الحسن الأحد 23-08-2015 21:37


فى مخيلة البشر، فى كل زمان ومكان، عصرٌ ذهبى. زمنٌ جميل كان فيه الحال أفضل، والبشر أسعد، والدنيا أجمل.

الأديان الإبراهيمية الثلاثة تقول لنا إن أبانا آدم كان أسعد كثيراً فى الجنة، قبل أن يُطرد منها، ويُكابد -جزاءً له على عصيانه- عذابات الحياة الدنيا. عصرنا الحالى، مذ نزل الإنسان على الأرض، هو فى واقع الأمر ليس سوى عقوبة من الله. أما العصر الذهبى -فى جنة عدن- فقد ضاع للأبد، ولن يعود سوى فى الدار الآخرة.

دائماً العصرُ الذهبى ينتمى إلى الماضى. الحضارة اليونانية تشكلت فى القرنين السابع والسادس قبل الميلاد على وقع ملاحم «هوميروس» التى تحدثت عن زمن ذهبى ولّى قبل قرون. زمن الملاحم والبطولات فى طروادة. العصور الوسطى كانت مشبعة بأفكار الخطيئة الأولى التى أفقدت الإنسان النعيم الإلهى وأفسدت الحياة للأبد. عصر النهضة ارتكز على فكرة استعادة العصر الذهبى للحضارات الكلاسيكية (أثينا وروما) التى كانت قد بادت منذ أكثر من ألف عام. أُثر عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «خير القرون قرنى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم». فى المخيلة الجمعية للمسلمين أن الزمن الذهبى للإسلام قد ولى بالفعل، ولا سبيل لإعادته.

تأمل هذه الحكاية: قال عثمان بن سعيد: حدثنا محمد بن مهاجر، عن الزبيدى، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة، رضى الله عنها، أنها قالت: رحم الله لبيداً- تقصد لبيد بن أبى ربيعة- وهو شاعر جاهلى أدرك الإسلام، إذ يقول: «ذهب الذين يُعاشُ فى أكنافِهم... وبقيتُ فى خلفٍ كجلدِ الأجربِ». قالت عائشة: كيف لو أدرك زماننا هذا؟ قال عروة: رحم الله عائشة، كيف لو أدركت زماننا هذا؟ قال الزهرى: رحم الله عروة، كيف لو أدرك زماننا هذا؟. قال الزبيدى: رحم الله الزهرى، كيف لو أدرك زماننا هذا؟

انتهت الحكاية، والعبرةُ لا تخفى. كلُّ زمن هو بالضرورة زمنٌ ذهبى بالنسبة لما يليه من أزمان. ما السرُّ فى ذلك؟

السرُّ هو أننا نصوغ الزمن الماضى ونُعيد نسجه من خيوط واقعنا المُعاش. من واقع طموحاتنا وآمالانا ورغباتنا. نُعيد تكوين صورة مُثلى عن العصر الذهبى الضائع. هذه الصورة هى فى الواقع انعكاس لما نرفضه فى زماننا الحالى أكثر مما تحمل وصفاً صادقاً للزمن الماضى. هكذا، يجرى توليد زمن سعيد مُتخيل. مثالى وكامل. هكذا يولدُ الحنين.

يقول محمود درويش: «فليس الحنينُ ذكرى.. بل هو ما ننتقى من مُتحفِ الذاكرة.. الحنين انتقائى كبستانى ماهر.. وهو تكرارٌ للذكرى وقد صُفيت من الشوائب».

هذا الميلُ اللاشعورى إلى إعادة صوغ الماضى يُفسد الحاضر والماضى معاً. يُفسدُ الحاضرَ لأنه يجعله مُجرد ظل باهت ومشوه لماضٍ كان أجمل كثيراً. ولمعرفتنا باستحالة عودة الماضى، فإن الحنين إليه يصيرُ نوعاً من العذاب الدائم والرفض للواقع والشكوى من انحدار الأحوال المستمر. المقولة الشعبية «الدنيا ما عادش فيها خير» تُلخص هذه المعضلة. هى مقولة سمعناها من أجدادنا ومن آبائنا، ونجد أنفسنا -لا شعورياً- نكررها، وغالباً سيرددها أبناؤها من بعدنا.

على أن الحنين يُفسد الماضى أيضاً لأنه يُعيد تركيبه على هوانا. يُصبح الماضى مسرحاً لأبطال أسطوريين مثاليين، وجمهور من السُعداء الراضين. يصبحُ الحنين إلى هذا الماضى ملجأنا للهرب من بؤس زماننا. هكذا تُولد الأساطير وتتشوش معرفتنا بالماضى فلا يبقى منه سوى صور صنعناها من محض الخيال.

ماذا عن مصر؟ بإمكاننا النظر إلى الحاضر المصرى باعتباره حلبة صراع ثقافى بين «عصور ذهبية» مختلفة. عصرٌ ذهبى للفراعنة العظام، حيث الحضارة والسيادة. عصرٌ ذهبى للإسلام، عندما كانت القاهرة عاصمة للخلافة. عصرٌ ذهبى للأسرة العلوية عندما وصل جيشُنا إلى أعتاب أوروبا. عصرٌ ذهبى لليبرالية المصرية عندما كانت القاهرة تُضاهى المُدن الأوروبية وجامعتها كجامعات باريس ولندن. عصرٌ ذهبى للناصرية عندما كان للفقير مكانٌ، وكانت مصر سيدة المنطقة.

غير أن أهم صراع سياسى/ ثقافى يدور بين «عصرين ذهبيين» على وجه التحديد: زمن الخلافة الراشدة، والزمن اليوليوى (وبخاصة الستينيات). أغلب المصريين ينتمون بخيالهم لواحد من هذين الزمنين. والخيال درجات. هناك من يكتفى بمصمصة الشفاه والتحسر على ضياع الزمن الجميل. وهناك من يذهب خطوة أبعد بمحاولة استعادته واستنساخه من جديد فى الزمن الحاضر. فى هذه الحالة الأخيرة، يتحول الحنين إلى مشروع سياسى يقوم عليه مثقفون وقادة وتنظيمات سياسية.

هل من سبيل لكسر هذه الدائرة الجهنمية من الصراع بين الحنين والحنين المُضاد؟

مشروع الحداثة الذى بزغ فى أوروبا فى القرن السادس عشر، وتسارع مع الكشوف الجغرافية والتصنيع، ارتكز على فكرة مختلفة عن أى شىء عرفه الإنسان فى السابق: المستقبل أفضل من الماضى!

هذه الفكرة البسيطة كانت النواة لتغيرات كاسحة. الرأسمالية -والنظام البنكى الذى قامت عليه- ليست سوى استثمار فى مستقبل يُفترض أنه يحمل الخير، وأنه سيكون أفضل من الماضى. العلم الحديث يقوم على افتراض آخر بسيط بأن الإنسان لم يصل إلى المعرفة الكاملة بعد، وأن السبيل إلى المعرفة لا يتحقق بالتوفر على دراسة الكتب التى تتحدث عن الأزمنة الماضية (كما بشرت العصور الوسطى)، وإنما بالنظر إلى المستقبل واستكشافه. هكذا ولد العالم الحديث الذى نعيش فيه. الحنينُ إلى الماضى لم ولن يختفى، ولكنه لم يعُد المحرك الأول للخيال الإنسانى.

هل يأتى على بلدِنا حينٌ من الدهر يكون فيه عصرها الذهبى أمامها، وليس خلفها؟

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية