عندما يتحدث أكبر العلماء الذين عرفتهم مصر، فإن علينا أن ننصت بشدة، ليس فقط لأن الحكمة سوف تكون غالبة، وإنما لأننا نحتاج لكل أنواع المساعدة للخروج من الحالة التي وصلنا إليها. وفى اجتماع حضره الدكتور أحمد زويل مع الشباب في ١٥ أغسطس الجارى، قال: «هناك الآن طابور خامس لتطفيش الناس اللى فاهمة». ولمن لا يعرف، فإن تعبير «الطابور الخامس» ذكره أحد جنرالات جيش «فرانكو» أثناء الحرب الأهلية الإسبانية- كويبو كيللانو- عام ١٩٣٦ في معرض الحديث عن غزو العاصمة مدريد من الداخل. بعد ذلك، استخدمت «أجاثا كريستى» التعبير عنوانا لإحدى رواياتها، وصدرت عام ١٩٤١ وترجمت إلى العربية بعنوان «العميل السرى». المعنى في كل الأحوال كان أن هناك قوى هدامة في داخل الدولة، تضعف من مناعتها وقدرتها وتجعلها جاهزة إما للانهيار أو جاهزة للغزو الخارجى.
في عُرف الدكتور زويل، وفى كلماته القصيرة، أن ذلك يحدث عندما يتم «تطفيش الناس اللى فاهمة»، بمعنى آخر، التخلص من عقل الدولة وأكثر من فيها ذكاء. العبارة لها شقان: أولهما أن هناك جماعة في كل دولة «فاهمة»، بمعنى أنهم يعرفون العلاقات بين الأمور المعقدة وكيفية التعامل معها، وهناك جماعة أخرى تريد «تطفيش» هؤلاء لأن وجودهم يمثل الخطر الأول عليهم شخصيا وليس على الدولة. المسألة هنا أخطر من جماعة داخلية تبث الشائعات وتخفض الروح المعنوية للشعب، أو أنها حتى جماعة من الجواسيس الذين ينقلون المعلومات إلى الأعداء، وإنما هم الجماعة التي تريد أن تحرم الدولة من أعز ما تملك: هؤلاء الذين يفهمون.
إذا انتقلنا من «النظرى» إلى «العملى»، فإن أول عملية «التطفيش»، إلغاء معنى «الفهم» والذكاء، والأهم المعرفة، ولا يكون ذلك إلا بحالة من التواطؤ الجماعى على الغش، بأن يكون من لا يفهم أو يفهم القليل هو الأول والعظيم والذكى. نتائج الثانوية العامة دائما تعبر عن أول الخيط في الكارثة، حيث لم يُعرف في العالم كله جهابذة وعباقرة مثل عدد هائل من الطلبة يحصل على ١٠٠٪، وأحيانا ما هو أكثر إذا ما أضيفت نتائج اختبارات القدرات، وثبت أن للطالب أو الطالبة لعبة رياضية أحرز فيها سبقا من نوع ما. لا يوجد ما يؤكد أن هناك علاقة بين اللعبة الرياضية والدخول إلى كلية الطب التي سوف يجرى السعى لها طالما حصل تلميذنا على هذه النتيجة الجهنمية؛ ولكن المؤكد أن هذه النتيجة زائفة ويتواطأ المجتمع كله على القبول بها. سبب هذه الحالة من التأكيد أن جامعة زويل أجرت لهؤلاء الاختبارات التي تليق بالدخول إلى جامعة حقيقية فكانت أفضل النتائج ٧٢٪، التي هي بالكاد تسمح بالقبول. هنا تستقيم الأمور وتكون واضحة أن الطالب المتوسط لدينا هو في حقيقته ليس عبقريا، ولا نابغة، ونحن نعرف جيدا أنه بمجرد أن يصبح طالبا جامعيا، فإن كل أمر ينكشف ويظهر. الثانوية العامة جرى تصميمها بحيث تنتهى معها عملية «الفهم» وتحتاج الحالة إلى عام كامل من «غسيل المخ» حتى يتعامل شبابنا مع العلم.
ماذا سوف يفعل هؤلاء بعد تخرجهم، وقيام الجامعات بتفصيل حالتها العلمية على قدراتهم، سوف نجدهم جميعا أو أغلبهم يصطفون في طوابير العمل في الحكومة التي جاء معظم العاملين فيها من نفس صفوف الثانوية العامة التي تمجد قيمة المساواة بين الجميع، من يفهم ومن لا يفهم. من هنا يصير «الفاهم» هدفاً لجمهرة واسعة من غير الفاهمين الذين لا يؤمنون قط بفكرة أن البشر في حقيقتهم غير متساويين من حيث المهارات والعلم والموهبة والكد والعمل، ومن هؤلاء يتكون «الطابور الخامس» الذي أول مبادئه أن الذي يفهم هو حالة «شاذة»، وعلى الأرجح أنها مزيفة، وفى كل الأحوال فإنها تعوق آلة العمل والإنجاز لأنها من ناحية «تفهم» الخلل الذائع، ومن ناحية أخرى أن لديها آراء ووجهات نظر في إصلاح الخلل. التخلص من هؤلاء ليس صعباً بالمرّة، فكل ما عليك أن تفعله أن ترفض ربط العمل بالإنتاج، أو الدرجة الحكومية بالأداء، وأن النجاح هو نتيجة جهد عقول لا تقدر بثمن. إن الخطوة الأولى في رقى وتقدم الدولة هي أن تعرف كيف تحافظ على من يفهمون فيها؛ هي مهمة صعبة ولكنها ليست مستحيلة!.