x

نصار عبد الله ذو البدلة الشركسكين «1ـ 2» نصار عبد الله السبت 22-08-2015 22:08


فجأة، تذكرت «آرتين ليون جبران» وأنا ألتهم سطور العمل الروائى البديع: «ذو البدلة البيضاء الشركسكين» للوسيت لينيادو التي تحكى قصة خروج أسرة يهودية من مصر، وذلك في عصر النزوح الذي بدأت موجاته الأولى مع قيام إسرائيل عام 1948، ثم تصاعدت وتيرته بعد ثورة يوليو 1952. آرتين الذي تذكرته فجأة حين شرعت في قراءة هذا العمل كان واحدا من زملاء الدراسة في كلية الاقتصاد في مطلع الستينيات من القرن الماضى.

لم أعرف أنه يهودى الديانة إلا بالمصادفة، بعد أن كنا قد وصلنا إلى الفرقة الثالثة، في أعقاب وقفة من وقفات الدردشة التي جمعتنى به مع زميل آخر قبل بدء المحاضرة. استأذن منا آرتين لكى يحجز لنفسه مكانا في القاعة. عندها مال الزميل على أذنى هامسا: الغريب أنك لا تستطيع أن تدرك إطلاقا أي فارق بيننا وبين آرتين!! سألته متحيرا من هم «نحن» الذين لا تستطيع أن تدرك فارقا «بينهم» وبين آرتين؟! أجاب: نحن المسلمين! وأيضا المسيحيين من زملائنا! لم أكن قد فطنت بعد إلى ما يقصده حين سألته: أليس آرتين مسيحيا؟.. أجابنى: كلا.. إنه يهودى!.. قلت له: هذه أول مرة أعرف فيها أن آرتين يهودى!.. رغم أنى تعرفت عليه منذ عامين، ولو كنت أعرف هذا منذ البداية ما تغير في الأمر شىء لأنه بالفعل لا يختلف عن أي زميل مصرى آخر!

بعد تخرجنا عام 1966 قدر لى أن أقابل آرتين مرة واحدة.. التقيت به في الإسكندرية في أغسطس 1967.. لمحته يعبر مصادفة من أمامى، وأنا جالس على كرسى بشاطئ سيدى بشر، ناديته وتصافحنا بحرارة ودعوته إلى الجلوس فجلس.. لا أدرى ما الذي دفعنى لأن أسأله عن مدى صحة ما تردد حينذاك من أن اليهود المصريين قد تعرضوا لمضايقات شتى في أعقاب نكسة 1967 ولم يخطر ببالى يومها أنى- دون أن أقصد- قد نكأت جرحا غائرا في نفسه، وأن صلتى به لا تسمح بأن يفضى لى بمكنون صدره.. لم أفطن إلى ذلك إلا عندما تغيرت ملامحه وظهرت أمارات الحزن والألم العميق على وجهه، ونهض فجأة مستأذنا متعللا بأنه مضطر إلى المغادرة، لأن هناك من ينتظره!

اعتذرت له بشدة إن كان قد صدر منى دون قصد ما يؤلمه، لكنه قال في أسى: ما تاخدش في بالك.. ربنا كريم.. ومضى!.. لم أره بعد ذلك قط، ولم أسمع خبرا عنه.. لكننى تذكرته فجأة وأنا أقرأ كتاب لوسيت لينيادو الذي نوهت عنه في بداية الحديث.. الكتاب عمل روائى بديع.. كأنه رواية مكتملة كتبها مؤلف روائى مقتدر رغم الطابع التسجيلى الذي تحكى فيه المؤلفة سيرة حياة أسرتها، أسرة: ليون لنيادو اليهودى المصرى الذي ينحدر من أصول شامية والذى عاش حياته كلها في القاهرة، وظل حتى آخر لحظة في عمره مستمسكا بأنه مصرى عربى، رافضا تماما أن يتقبل قيم المجتمع الأمريكى الذي هاجر إليه والذى وجد نفسه مكرها على أن يعيش فيه فقيرا كادحا على حافة الكفاف بعد أن كان مواطنا ميسور الحال حينما ترك القاهرة في عام 1963.

ظلت أصداء صرخاته تدوى في سمع ابنته لوسيت كلما تذكرت أباها وهو يصرخ عندما تحركت السفينة التي تقله هو وأفراد أسرته من الإسكندرية: «رجعونا مصر.. رجعونا مصر».. وظل هذا الحلم يراوده حتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة في أحد مستشفيات نيويورك عام 1992.. وعندما قررت لوسيت أن تزور القاهرة في عام 2005 لكى تستكمل مادة كتابها.. وعندما كانت تجلس على متن الطائرة المتجهة إلى القاهرة كانت تشعر (كما تقول في المقدمة) كأن أباها يجلس إلى جانبها، وكأنما أمنيته أخيرا على وشك أن تتحقق... وللحديث بقية.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية