كان يرمق المسافرين القادمين إلى بوابة الدخول، وقد راح يفكر بشكل محموم: «تعالوا عندى. أعطونى أموالكم. أنا أحب نفسى. وأنتم كذلك يجب أن تحبونى. لا تذهبوا إلى البوابات الأخرى. تعالوا.. تعالوا..».
كانت الأفكار الداخلية تتصارع فى نفسه ولو شاهد نفسه فى المرآة لرأى ملامح جشع توشك أن تصبح شهوانية. شىء قريب جدا من تقلص وجهه حينما انفرد أول مرة بـ«نوسة».
لكن نوسة نفسها لم تعد تحركه كما يحركه المال. يوشك ألّا يصدق السهولة التى صار يجنى بها المال دون أدنى تعب. يحدق فى توسل إلى المسافر القادم. يحمل حقائبه ويضعها على جهاز الكشف قبل دخوله مبنى المطار. ينحنى فى احترام زائف وعيناه تلتصقان على وجهه كقبلة لزجة. ينحنى المسافر كى يخرج من جيبه ورقة نقدية حريصا ألا يراه أحد! هذه صدقة مخفية وأحمد يحب الصدقات المخفية. أغلبها من فئة العشرة جنيهات، وأحيانا عشرين، تخرج من جيب المسافر فى هدوء وكأنه يدارى رشوة. تتلقفها الأصابع الجشعة التى تحشرها مع مثيلاتها، وقد أسكره تدفق النقود فى جيبه. حركة السفر لا تتوقف، والمسافر الواحد لا يستغرق أكثر من دقيقة. أهكذا أيتها الدنيا المحيرة؟ بهذه السهولة يجمع فى الفترة الواحدة آلافا مؤلفة؟ كان يعمل طول النهار فى الشمس الحارقة ولا يتحصل إلا على خمسين جنيها بالعافية! ويتحصل على الإهانة معها وقلة القيمة. واليوم واقف فى التكييف والجميع ينفحونه بالعشرات المباركة! كل هذا بفضل نوسة وقريبها العجوز الشهوانى الذى يحتل منصبا تنفيذيا مهما. ترى ما الذى يحدث بينهما فى الغرف المغلقة؟ زمان كانت هذه الفكرة تصيبه بالجنون فينهال على نوسة ضربا! اليوم لا يريد أن يعرف! هو أصلا لم يلتحق بالمطار إلا بوساطته! ولم يُنقل إلى هذا المكان الذى يتهافت عليه العاملون إلا بفضل نوسة! فى البدء كان يتهم أمها بكل البلاوى! أمها التى تبدو وهى تتيه فخرا بقريبها المهم. فى عينيها جرأة كأنها صاحبة بيت دعارة! هذه أشياء كان يعرفها أحمد منذ البداية. لكن جنونه بنوسة أفقده عقله. كان يتحرك كحيوان تقوده غريزته ويوشك أن يهز ذيله ويعوى. وكان أصدقاؤه يقولون: «يا خسارة الجدع! أحمد! أجدع شاب بين أصحابه يتورط فى مصاهرة هذه المرأة». وكان أحمد يتحدث عن «العُلّيق» الذى يُسقى لخاطر الورد! وكان يؤكد أنه سيفرض إرادته. وكان يقسم أنه سينتزع نوسة من هذا الوسط الموبوء ويذهب بها وحيدا، والويل لمن يعترض!
وهكذا تزوجها.. فى البدء خاض معارك عديدة! لكن الفقر ابن كلب ويسحق الإنسان ويجعله بلا كرامة! وأمها لا تكف عن معايرته فى الذهاب والإياب، أستاذة فى الغمز واللمز بالعين والحاجب. وحتى شهوته المجنونة فى نوسة انطفأت! وحين ذهبت من وراء ظهره إلى قريبها الشهوانى العجوز كى يتوسط له فى العمل بالمطار ضربها! لكنه استلم الوظيفة فى الصباح التالى. وحين صار مخضرما فى العمل وفهم دقائق الأمور فإنه طلب منها أن تذهب إليه كى ينقله لبوابة تفتيش الحقائب. البقشيش انهمر حتى فاق توقعاته. بالتدريج صار يعتبره حقا مكتسبا. وإذا تجاهله مسافر أحسّ بحزن حقيقى وشتمه فى سره وتمنى لو كان ممكنا أن يضربه.
أحمد لم يعُد الشاب الجدع وهو أول من يعترف بهذا. لكن طالما معه نقود فما قيمة ذلك؟