وافقت جامعة الدول العربية، الثلاثاء الماضى، خلال اجتماع على مستوى المندوبين، على طلب ليبيا الدعم العسكرى العربى هناك، والذى من المفترض أن يصل إلى حد التدخل المباشر بالقصف الجوى بصفة مبدئية، الطلب الليبى يتزامن مع إقرار مشروع القوة العربية المشتركة، والذى من المنتظر التوقيع عليه الخميس المقبل، فى اجتماع يشارك فيه وزراء الخارجية والدفاع.
التكهنات على الفور أشارت إلى أن عاصفة جديدة فى الطريق، محورها ليبيا هذه المرّة، تتضمن القصف على مدينة سرت بصفة خاصة، التى هى مسقط رأس العقيد الراحل معمر القذافى، والآن تُعد معقلا لتنظيم داعش، حسب المعلومات المتوافرة من هناك، وبذلك سوف تشكل الأراضى الليبية أولى مغامرات القوة العربية.
وكما أن هناك عواصم عربية تحمست منذ الوهلة الأولى لمشروع إنشاء القوة المشار إليها، وعواصم أخرى رفضت، وثالثة تناور، فإن هناك أيضا مَن يدعم القصف على ليبيا بقوة، وهناك أيضا مَن يرفض، وهناك مَن يتحفظ، إلا أن الغريب فى الأمر هو أن جهود التسوية السلمية فى أى من الأقطار العربية الساخنة قد توارت خلف لغة القوة واجتماعات القصف، والأكثر من ذلك ما تواتر من أنباء عن تهريب بعض الرفقاء السلاح للفرقاء أجمعين، وهو ما ستكشف عنه وثائق المستقبل، فيما يشير إلى أن الأحضان والقبلات الساخنة ليست على قلب رجل واحد.
المهم أن أهداف هذه القوة المشتركة أصبحت على المكشوف، لن يتم توجيهها أبدا لتحرير الأرض العربية المحتلة، كما لم يتم الإعلان عن أن هدفها هو ردع العدوان المستمر على الأراضى العربية، الأهداف كانت واضحة قبل وبعد إقرارها، وهو قصف الدول العربية الخارجة عن المِلّة التى تعتنقها الأنظمة المرتعشة، مثلما حدث فى اليمن، ومثلما تجرى المساعى بشأن سوريا، ورغم أن هذه الأنظمة ترفض طوال الوقت أن يتدخل أحد فى شؤونها، داخلية كانت أو خارجية، إلا أنها سمحت لنفسها بالحديث المباشر عن إسقاط هذا الرئيس أو ذلك النظام.
قد يكون مقبولا مساعدة هذه الطائفة أو تلك، إغاثياً بالمال والغذاء، سواء فى ليبيا أو غير ليبيا، وقد يكون مقبولاً دعمها فى المحافل الدولية، وقبل هذا وذاك بذل أقصى جهد لتحقيق المصالحة والسلام بين كل الطوائف المتصارعة هناك، لكن ما لا تمحوه ذاكرة الشعوب أبدا هو مثل ذلك العدوان على الشعب العراقى، يوماً ما، بمباركة ودعم لوجيستى عربى، أو ذلك الدعم العسكرى لكل الأطراف على الساحة السورية، أو ذلك القصف على الشعب اليمنى، وذلك الذى يتم الإعداد له على الشعب الليبى، حتى لو كان الهدف مطاردة فصيل متمرد أو تنظيم إرهابى، وذلك لأن مثل هذا التصعيد المسلح هو ما جعل من هذه الدول مجتمعة دويلات على أرض الواقع، فى غياب جهد سياسى حقيقى وفاعل.
لقد عانى العرب على امتداد تاريخهم الحديث من طغيان لغة السلاح فى المنطقة، وبصفة خاصة فى الصراع مع العدو الإسرائيلى، الذى لم يكن يقبل بأى مبادرات سلام شاملة، وها هُم العرب يقفون فى الخندق الإسرائيلى الآن، يقصفون بعضهم بعضا، نيابة عن العدو الحقيقى بأموال البترول العربى وسلاح الغدر الغربى، غير مبالين بما يسقط من أرواح، ولا بما سوف يسجله التاريخ من عار، تتسع رقعته يوما بعد يوم.
الأزمات الخارجية العربية تجاه بعضنا البعض هى نتاج أزماتنا الداخلية بالدرجة الأولى، ووجود داعش وأخواته ما هو إلا صناعة غربية بأموال عربية، ولذلك فإنه سوف يظل يجد الدعم العلنى والمستتر، ومع ذلك لم يفطن بعضنا إلى أن النار أصبحت على مقربة من الجميع، مما يتحتم معه تحكيم لغة العقل لتحقيق الاستقرار قبل إقرار لغة السلاح، وما ليس مفهوما هو أن تمتد أطماع خلفان ودحلان وقطران، على سبيل المثال، إلى التأثير فى الشأن الليبى، فيما شركاء الجغرافيا الذين يجب أن تعنيهم القضية بالدرجة الأولى يتعاملون معها بنفس نظرية سالفى الذكر، وهى القصف وإذكاء روح العنف بين القوى المتصارعة، الأمر الذى يؤكد عدم وجود استراتيجية بعيدة المدى فى التعامل مع الأزمة، تأخذ فى الاعتبار عدم استعداء أى من الأطراف، وذلك على اعتبار أن موقف أى من دول الجوار لأى أزمة يختلف بالضرورة عن موقف هذه أو تلك من التى تسعى إلى وضع قدم هنا أو هناك دون أى مبرر منطقى.
الأمر الذى بدا أنه لم يوضع فى الاعتبار هو موقف أو رد فعل المجتمع الدولى، خصوصا الغربى- الأمريكى، والأممى أيضا، على مثل ذلك التدخل العسكرى فى شأن دولة مستقلة، حتى لو كان ذلك بناء على طلب فصيل ما يعتبر نفسه الممثل الشرعى أو الرسمى الوحيد، وأعتقد أن مثل هذا الموقف قد ظهر جليا حين أقدمت مصر من قبل على إجراء من هذا القبيل، حيث قوبل بالرفض دوليا وأمميا، ناهيك عن أن الهدف لم يتحقق، وإلا لما كنا فى هذا الموقف الآن.
أعتقد أن سياسة المكاييل المزدوجة عربياً فى التعامل مع قضايا الإرهاب بالمنطقة هى التى ساعدت فى انتشار الفوضى بهذه السرعة الفائقة، فلا يُعقل بأى حال من الأحوال أن تجد هذه التنظيمات، على سبيل المثال، دعما فى سوريا، فى الوقت الذى نسعى فيه إلى مقاومتها فى ليبيا، أو أن تحصل على مساعدات فى العراق، بينما نواجهها فى اليمن، فيما يشير إلى أن الرؤية ليست واحدة بين جميع الأقطار، مما أوضح أيضا أن هناك غموضا فى تعريف الإرهاب، تختلف مساحته من دولة إلى أخرى، وهو الأمر الذى كان يجب مواجهته وحسمه منذ البداية قبل الشروع فى أى تحرك على الأرض.
على أى حال- وفيما يتعلق بالشأن الليبى تحديدا- بدا واضحا أنه كان يجب، منذ البداية، تغيير استراتيجية العمل فى ذلك المستنقع تماما بمنأى عن حفتر، وبفتر، وجفتر، وما شابه ذلك، وذلك بالاعتماد على قوى فاعلة على الأرض هناك، يمكنها حسم الأوضاع دون تدخل خارجى، أو بالتعامل مع جميع الأطراف، على قدم المساواة، بدلا من تلك التى لا تستطيع حماية الأرض التى تحت أقدامها، أو تلك التى لا تتمتع بتأييد شعبى على أرض الواقع، وهو الأمر الذى تسبب فى إطالة أمد الأزمة إلى هذا الحد.