انطوى نظام الأمن الجماعي في إطار الأمم المتحدة على العديد من الثغرات، فالعديد من القواعد المرجعية التي يستند إليها والتي تحكم آلياته تفتقر إلى الوضوح ومن ثم تخضع لتفسيرات شتى ومتباينة. كما كانت فعالية دور الأمم المتحدة في مجال الأمن الجماعي رهنا بإرادة الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي ولا تتجاوز نطاق الاشتباكات بين الدول الصغيرة، على نحو دعا البعض للتساؤل عن جدوى نظام الأمن الجماعي في ظل الأمم المتحدة ما دام هذا النظام عاجزا عن الحيلولة دون قيام خطر الحرب بين الدول الكبرى، بل لقد أثبتت التجربة عدم فاعليته في بعض حالات العدوان الذي تقوم به دول صغيرة بمساندة إحدى الدول الكبرى. ولعل هذا هو ما دفع العديد من البلدان في هذه الفترة إلى إنشاء منظمات للأمن الجماعي في مواجهة منظور الأمن القومي، وهذا ليس بهدف تعزيز أمنها العسكري فحسب بل الاقتصادي والثقافي أيضا، ومن بينها الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية وحلفا الناتو ووارسو ..وغيرها.
كما يلاحظ أن الدول الكبرى اختارت الخروج على الإطار المعياري (القانوني) لنظام الأمن الجماعي في بعض المناسبات، مثل ما حدث إبان أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962، ورغم ذلك فإن هذه الدول كانت تسعى إلى تبرير أفعالها من خلال إحدى الطرق التالية:
ومن الملاحظ أنه كانت هناك بعض المحاولات لمعالجة المثالب التي ظهرت في نظام الأمن الجماعي إبان مرحلة الحرب الباردة، حيث طرأت على نظام الأمم المتحدة ومؤسساتها العاملة مجموعة من التطورات الأساسية في مجال الأمن الجماعي على نحو أدى إلى تأكيد سلطاتها في هذا المجال ويتضمن ذلك:
ويرى البعض أن عجز الأمم المتحدة عن تطبيق نظام الأمن الجماعي كان السبب وراء ابتكار نظام جديد لمواجهة الأزمات والصراعات المسلحة أطلق عليه «عمليات حفظ السلام». وقصد بذلك التدابير التي اتخذتها الأمم المتحدة في محاولة تهدئة الصراعات والنزاعات السياسية الحادة، وكان من أبرز صورها: قوات حفظ السلام، والمراقبون الدوليون العسكريون، ومهمات المساعي الحميدة، بالإضافة إلى ممثلي الأمين العام في كل نزاع على حدة. واعتبر كثيرون أن الأساس القانوني لعمل هذه العمليات استند إلى المادة 43 من ميثاق الأمم المتحدة والتي تحث الدول الأعضاء في المنظمة على إبرام اتفاقيات مع مجلس الأمن الدولي لوضع وحدات من قواتها الوطنية تحت تصرف المجلس حتى يتسنى له التدخل عسكريا لمواجهة حالات العدوان. أي أن حفظ السلام فرضته الضرورة الناشئة عن فشل الأمم المتحدة في تأسيس قدرتها العسكرية الخاصة والاضطلاع بالمهام الموكولة إليها بموجب الميثاق في تحقيق الأمن الجماعي. ويتأكد ذلك في ضوء حقيقة أن ميثاق المنظمة الدولية خلا من الإشارة إلى عمليات لحفظ السلام.
الأمن الجماعي بعد انتهاء الحرب الباردة:
جاءت المحطة المفصلية التالية في تطور نظام الأمن الجماعي مع التطور الذي شهده هيكل النظام الدولي في مطلع تسعينيات القرن العشرين مع نهاية الحرب الباردة وما أفضى إليه ذلك من إعادة تنشيط آليات الأمم المتحدة لاسيما في مجال تسوية المنازعات بالطرق السلمية حتى قبل أن يتفكك الاتحاد السوفيتي. وبعد انتهاء الحرب الباردة تحدث الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش «الأب» عن نظام دولي جديد سمته الأساسية التعاون لمواجهة أي عدوان، وأعطى للأمم المتحدة دورا أساسيا في عملية تحرير الكويت من الغزو العراقي في 1991 والتي تبلورت معها ملامح التغير في هيكل النظام الدولي، ففي خلال هذه الأزمة ارتفع شعار «النظام العالمي الجديد» الذي تلعب فيه الأمم المتحدة الدور الأهم في المحافظة على الأمن والسلم الدوليين. وقد بدأ هذا النظام يحظى بقدر كبير من المصداقية خصوصا مع بدء مجلس الأمن الدولي في ممارسة دوره كما هو مرسوم في الميثاق، إذ إن المجلس اتخذ إبان هذه الأزمة 12 قرارا لا مثيل لها في تاريخه. وعليه فقد أتاحت الأزمة فرصة نادرة لإعادة إحياء ترتيبات نظام الأمن الجماعي (لجنة أركان الحرب- المادة 43) خاصة أن كلا من الاتحاد السوفيتي وفرنسا قد أظهرا حماسا لهذه الفكرة إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تتحمس لها على الإطلاق إذ لم يكن من بين أهدافها خلال هذه الأزمة إحياء نظام الأمن الجماعي أو تنشيط دور الأمم المتحدة.
لكن ومع دخول الأزمة مرحلة الحسم العسكري سلم المجلس مفاتيح إدارة الأزمة إلى التحالف المناهض للعراق بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك عبر قراره الشهير رقم 678 الذي يتيح للدول المتعاونة مع حكومة الكويت استخدام القوة المسلحة لإجبار العراق على تنفيذ قراراته ولم يعد لمجلس الأمن أي قدرة على التأثير على مسار الأزمة منذ صدور هذا القرار في 29 نوفمبر 1990 وحتى انتهاء العمليات العسكرية في 27 فبراير 1991، وعلى الرغم من أن مجلس الأمن هو الذي صرح بهذه الحرب إلا أنها لم تتم وفقا للإجراءات المنصوص عليها في الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة بل إن القوات التي خاضت هذه الحرب لم ترفع علم الأمم المتحدة.
وهناك ما يمكن اعتباره اتفاقا على أن الأمن الجماعي قد شهد تطورا جديدا مع التغير في هيكل النظام الدولي بانتهاء نظام الحرب الباردة، مع بروز مصادر جديدة وغير تقليدية لتهديد السلم والأمن الدوليين؛ فلم تعد الحروب التقليدية بين الدول هي المصدر الأساسي لتهديد السلم الدولي، بل ظهرت مجموعات جديدة من المشكلات والأزمات الدولية الخطيرة مثل الحروب الأهلية التي ترتكز على أسس عرقية ولغوية ودينية والتي قد تتضمن في أحيان كثيرة أعمال إبادة جماعية، كما حدث في حروب البلقان ورواندا وبوروندي في التسعينيات. كما أن انسحاب القوتين العظميين (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي) من سباق الصراع على النفوذ في مناطق عديدة أدى إلى زعزعة الاستقرار في بعض هذه المناطق بعد ترك ساحتها لصراعات القوى المحلية والإقليمية، الأمر الذي أدى إلى ظهور أزمات من نوع جديد كان يصعب تصور وجودها خلال مرحلة الحرب الباردة. فضلا عن أن تفكك الاتحاد السوفيتي ومن بعده جمهورية يوجوسلافيا الاتحادية قد أدى إلى تفجر مشكلات القوميات والصراعات العرقية واللغوية الطائفية، ليس فقط في دول المعسكر الشرقي (الاشتراكي)، بل في أنحاء عديدة من أوروبا والعالم، كما برزت المخاطر المرتبطة باحتمالات استخدام أسلحة الدمار الشامل الموجودة في الدول السوفيتية السابقة من قبل بعض الفاعلين من غير الدول لاسيما الجماعات التي يصنفها البعض على إنها إرهابية.
إضافة إلى مخاطر انهيار الدول وما لها من تداعيات على غياب الأمن الشخصي للأفراد وكذلك انتهاكات النظم الحاكمة لحقوق مواطنيها. يضاف إلى ذلك القضايا المرتبطة بالفقر والأمراض معدية، والخلايا الإرهابية والتي صارت تشكل التهديد الأخطر لبقاء العالم ولأمن أفراده.
بعبارة أخرى، يمكن القول إن نظام الأمن الجماعي يواجه في الوقت الحاضر مجموعة من التهديدات تتجاوز حدود المعنى التقليدي للعدوان الذي تمارسه الدول. ويمكن إجمال هذه التهديدات على ست فئات، هي:
1. النزاع بين الدول
2. الفقر والأمراض المعدية والأخطار البيئية
3. العنف الداخلي، بما في ذلك الحروب الأهلية، الإبادة الجماعية، التطهير العرقي، وفشل أو انهيار الدول
4. أسلحة الدمار الشامل، ويتضمن ذلك الأسلحة الإشعاعية والبيولوجية والكيميائية فضلا عن الأسلحة النووية
5. الإرهاب
6. الجريمة المنظمة العالمية
وقد ترتب على ذلك الحاجة إلى بلورة مفهوم جديد أوسع نطاقا من مفهوم الأمن الجماعي هو «الأمن الإنساني»، وهو مفهوم يتخذ من الفرد وحدته الأساسية فى التحليل انطلاقًا من أن أمن الدولة رغم أهميته لم يعد ضامنًا أو كفيلا بتحقيق أمن الأفراد، والأكثر من ذلك أنه فى أحيان كثيرة تفقد الدولة الشرعية فتتحول ضد أمن مواطنيها. ومن هذا المنطلق، جاء بروز مفهوم الأمن الإنساني في محاولة لإدماج الشق أو البعد الفردي ضمن مفهوم الأمن، وذلك من خلال التركيز على تحقيق أمن الأفراد داخل وعبر الحدود بدلا من التركيز على أمن الحدود ذاته.