x

سحر الجعارة «نور».. الإبداع لا يموت سحر الجعارة الخميس 13-08-2015 21:32


عرفته «ممنوعا من العرض»، لكنه فى آخر مكالمة هاتفية بيننا كان لايزال متشبثا بحلمه القديم.. يبدع ليثبت لنفسه أنه على قيد الحياة.

العملاق «نور الشريف» فى ندوة قبل حوالى 20 عاما، يناقش أزمة منع فيم «ناجى العلى» من العرض، لأن به اتهامات ضمنية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

كان قويا، مبتسما رغم محنة المنع، مدافعا شرسا عن القضية الفلسطينية، وفى لحظة تأمل تذكرت أنه كان الأقرب لصورة «فتى أحلامى» فى الصبا.

لم أخجل وأنا أرى الصورة تتجسد فى فارس حقيقى، مثقف مستنير، دون ادعاء أو تعال، عاشقا لفنه.. كل من عرفه وقتها كان يعرف جلسته الصباحية للقراءة فى أحد فنادق وسط البلد.

ذهبت لأجرى حوارى الصحفى الأول، اقتحمت خلوته وهو جالس وسط كتبه، تماما كما «ابن رشد» فى فيلم «المصير».. وقرر «نور» أن يمنح صحفية فى أولى خطواتها أجرأ حواراته لمجلة «الكواكب».. أن يسقط حاجز الخجل والتردد ويفتح لى أبواب الثقافة والمعرفة، نقلنى إلى خانة الانبهار بغزارة معلوماته، ومنحنى قبساً من نوره.. ورحلت أحمل أجمل صفاته: تعلم أن تكون نفسك.. أن تكون عجوزا على الشاشة رغم صباك (مثل «كمال» بطل رائعة نجيب محفوظ فى «قصر الشوق»).. وشابا تعاند الزمن حتى لا يكسر عنفوان عطائك مهما تقدم بك العمر.. تماما كما قدم لنا «بتوقيت القاهرة» برئة لا تفيه حقه فى التنفس!.

كانت صراحة «نور» صادمة لشابة فى عمرى وقتها، وهو يفتح أوراقا صفراء ذابلة فى دنيا الثقافة، لكننى توقفت أمام وصفه لتجسيد الحزن العميق فى عيون «كمال» ليصبح بعدها رقم «1» على الشاشة والمسرح.. لقد بدأ التحدى فى رحلة العشق والإبداع.

ساعتها أفقت من سيناريو «حبيبى دائما» الذى أحفظه بالحرف، لكن مشهدا واحدا لم يفارقنى وهو يقول لمعشوقته «بوسى» إن العشاق يتشابهون ويحملون ملامح بعضهم.. فكنت أرى «بوسى» مرسومة على ابتسامته، محفورة على جبينه. بعدها اكتشفت «نوراً» مختلفاً: صرخته «يا ولاد الكلب» فى فيلم «سواق الأتوبيس».. نظرته إلى صورة «مبارك» فى آخر مشاهد فيلم «الحقونا»: «سرقونا يا ريس» بعد أن ضاعت كِلية البطل.

«نور» حالة فنية استثنائية.. يلتحم فيها الإبداع بالإيمان بقضايا مصيرية، «ماستر سين» يتمزق فيه الإنسان بين شياطين «زمن حاتم زهران» وملائكة «آخر الرجال المحترمين»!.

هل رحل «نور» فعلا دون أن يكمل ترنيمته، دون أن يلقى أشعار العبقرى «عبدالرحمن الشرقاوى» على لسان الإمام «الحسين»، رضى الله عنه، فى «ثأر الله»: «ما شرف الرجل سوى كلمة.. ما شرف الله سوى كلمة.. أتعرف ما معنى الكلمة؟.. مفتاح الجنة فى كلمة.. دخول النار على كلمة.. وقضاء الله هو الكلمة.. الكلمة نور وبعض الكلمات قبور».. فكم من كلمات حفرتها بعمرك فى ذاكرة السينما لتبقى أقوى من الرحيل وأبقى من الغياب.

كان «نور» مستعداً أن يعتزل الفن فى حال موافقة الأزهر على تجسيده شخصية «الحسين»، رضى الله عنه، تماما مثلما كانت لديه رغبة قوية فى تقديم فيلم عن حرب أكتوبر، ففوجئ بالمسؤولين يطلبون منه مقابلاً ماديًا ويتحججون بعدم وجود الإمكانيات.. فودّع أحلامه، ربما، مكتفياً بدور الإمام «عمر بن عبدالعزيز»، ليقدم نموذجا للحاكم العادل فى تفاصيل كثيرة للحياة، جسدها فى «حدوتة مصرية».. ملحمة وموسوعة مرئية لا تضاهيها إلا «شخصية مصر» لـ«جمال حمدان».

حين قابلت «نور» أثناء تمثيل «عمر بن عبدالعزيز» كان يرتدى خاتما منحوتا عليه نفس تفاصيل خاتم الإمام «عمر» ولم يخلعه من إصبعه بعدها.. ربما لهذا تمنى إذاعة مشهد وفاة الإمام «عمر» يوم وفاته، لأن به «لحظة تنوير ربانى». الإبداع لا يموت.. ستظل حياً فى قلوبنا.. فى وعى شكّلته بكلمات «ابن رشد»: «إذا كنت تبكى حال المسلمين فاعلم أن بحار العالم لن تكفيك دموعاً، أما إذا كنت تبكى الكتب المحروقة فاعلم أن للأفكار أجنحة وهى تطير لأصحابها».

لقد كنت الأجرأ.. والأصدق.. والأكثر إبداعاً.. سنفتقدك يا صديقى.. ونفتقد معك رمز المحاربة بسيف الحلم، والمقاومة بعشق الحياة.

إلى اللقاء يا صديقى.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية