x

محمد المخزنجي عندما تغيب ثقافة العلم محمد المخزنجي الخميس 13-08-2015 11:20


«ابتعد لتقترب» حكمة صوفية كثيراً ما أكررها لقناعتى التامة بصحتها، وهى قناعة مُجرَّبة، فعندما تلتبس علىَّ الأمور فى موضوع ما، أتقمص دور الطائر مرتفعا عن هذا الموضوع وأحلق فوقه، لألمَّ به فى نظرة شاملة ومتسعة، فأتبين فيه جوانب كانت خافية عند فرط الاقتراب، وهذا ما فعلته حيال ظاهرة اللغط الذى ثار حول تسمية مشروع «القناة الجديدة»، فاكتشفت أن غياب ثقافة العلم هو الذى سمح بالتمادى فى هذا اللغط، فلو أن المعلومات العلمية عن المشروع كانت متاحة، ولو أن حدًّا معقولاً من الثقافة العلمية كان متوافراً فى المجتمع لتقدير هذه المعلومات، لما كان هذا اللغط. فلماذا هذا الغياب لمعطيات العلم والثقافة العلمية فى حياتنا؟

ذلك الانشقاق العجيب

ساءلت نفسى: أليس لدينا علم وعلماء؟ والإجابة نعم. فلماذا لم نر شعاعات منهم تنير ثقافة العلم فى مجتمعنا؟ والإجابة: ليس كل العلماء قادرين على توصيل معطيات علمهم للجمهور العام. وهذا أمر طبيعى يسد ثغراته حتى فى البلدان الأكثر تقدما علميا نوع من المثقفين ثقافة تحيط بأساسيات المعرفة العلمية، مع قدرة على فك شفرات هذه الثقافة وتقديمها بدقة ووضوح للجمهور. وهنا نكتشف أمرا مروعا، هو الندرة الفاجعة لهذا النوع من المثقفين، لأسباب تتعلق بالتعليم أساسا، وقد اكتشفت أثناء دراستى فى أوكرانيا وروسيا أن التعليم «الإلزامى» حتى نهاية المرحلة الثانوية لديهم، ليس به هذا الانشقاق العجيب الذى يفصل بين «العلمى» و«الأدبى»، فالطالب إلى أن يُنهى مرحلة الدراسة الثانوية يدرس المواد العلمية والمواد الأدبية معا، ومن أهم اختبارات القبول بكليات الطب هناك، على سبيل المثال المدهش، امتحان جِدِّى فى الأدب، والمخفق فيه لا يمكن أن يدخل كلية الطب حتى لو كان ناجحا فى كل المواد العلمية المؤهِّلة لدخولها.

لماذا كل هذا الجدل العقيم حول تسمية ما أضفناه حديثاً إلى قناة السويس بينما ازدواج الممر البحرى للعبور المتزامن فى الاتجاهين هو الجديد الأهم؟

وقد بهرنى كثيرا بعد أن صارت لى صداقات متعددة فى ذلك المجتمع، أن طالبات وطلبة دراسات عليا فى الآداب، عندما كنت أتطرق فى الحديث معهم إلى التناظر بين دراما الكون والكائنات، فى انفراد أو تجمع الجزيئات أو الذرات أو الأجرام السماوية، وبين دراما انفراد أو تجمع البشر والحيوانات المختلفة، أكتشف أن لديهم دراية عميقة بالفيزياء الحديثة والفيزياء الفلكية والجسيمات دون الذرية، التى كنت أظن أننى قطعت فيها شوطا معقولا من التثقيف الذاتى. واكتشفت لدهشتى الكبيرة أنهم درسوا ذلك فى المرحلة الثانوية التى لم تكن مشقوقة إلى «علمى» و«أدبى» كما لدينا. وهى من كوارث تعليمنا التى تدفع «بجماهير غفيرة» إلى المرحلة الجامعية فى الكليات «الأدبية»، ليس لجحافلهم مكان فى سوق العمل الفعلى، ولا حتى فى مجال ثقافة الأدب التى يجهلها معظمهم.

من الثقافتين إلى الإنسانيين الجُدد

هذا الانشقاق العجيب فى العملية التعليمية، ومخرجاتها الثقافية، والذى يستدعى نقاشا جريئا وقرارات أجرأ، يضعنا فى مرتبة متأخرة للغاية مقارنة بنقاش شَغَل الدول المتقدمة منذ أكثر من خمسين عاما، ففى السابع من مايو 1959 قام أديب يشتغل بالعلم بإلقاء محاضرة فى جامعة كمبريدج عنوانها «الثقافتان والثورة العلمية»، وقد طُبعت المحاضرة فى كتاب صدرت منه عشرات الطبعات. كان المُحاضر هو «تشارلس بيرسى سنو»، أديب بدأ حياته فى حقل العلم باحثا فى الكيمياء بجامعة كامبريدج نفسها، ثم تفرغ للأدب وأنتج فيه الكثير والشهير فى زمنه، لكنه لم ينس ذكاء العلم وطِيب وعوده، فقال عنه: «العلم هو الأمل الكبير لعالَم أساءت الصفوة المدججة بالثقافة التقليدية تدبيره وقادته إلى الكساد الاقتصادى وإلى حافة حرب مدمرة، ثقافتهم تلك كانت مطبوعة بثقافة المفكرين الأدباء، الذين كانت كلماتهم تنساب فى عقول من يصنعون القرارات وهى ليست كثقافة العلم التى تُصلح نفسها آليا، ومن ثم كانت ثقافتهم بطيئة التغيُّر، وفترات ضلالها أطول».

ثار نقاش واسع وجدل محتدم حول أطروحة سنو عن الثقافتين، وتطور إلى طرح جون بروكمان لما أسماه «الثقافة الثالثة» عام 1995 التى يقدمها العلماء بأنفسهم للجمهور العام، وحمل فيها على رافعى لواء الثقافة الأدبية حملة شعواء لغطرستهم وجمودهم وتجاهلهم للعلم وجهلهم به، لكنه هذب من حدته فى كتابه التالى «الإنسانيون الجدد» 2003، مبشرا بثقافة تجمع بين الآداب والعلوم، وواكبت تبشيره نجاحات مدوية لكتب علمية حُرِّرت بجماليات أدبية بيعت بالملايين وتُرجمت إلى شتى لغات العالم ونالت جوائز مرموقة لم تكن تُمنح إلا للأعمال الأدبية الكبرى، وكانت هذه الكتب وما تلاها ولا تزال عماد نشر الثقافة العلمية بين جمهور البلدان المتقدمة ووسائل الإعلام هناك. فأين نحن من ذلك؟

هُراء فى موضوع كبير

باستثناء ندرة نادرة من دور النشر المعنية بكتب «الثقافة العلمية»، تكاد الصحافة أن تكون مدقعة الفقر فى هذه الثقافة، أما الفضائيات العربية كلها فهى معدمة أو تكاد. وفى ظل غيبة هذه الثقافة كان عاديا أن يسود لدينا لغط جامح حول مشاريع من الفجاجة تناوُلها بغير فهم لدور العلم والتقنية فى إنجازها، لهذا اندفع كثيرون فى جدل شكلى حول تسمية مشروع ازدواج المجرى الملاحى لقناة السويس غير المسبوق، هل هى: قناة جديدة أم مجرد تفريعة؟ بينما الأمر أعمق من هذا بكثير، فلم يكن الأمر مجرد حفر، حتى إبان شق القناة الأولى، فثمة علوم شتى تستبق وتواكب وتعقب هذا الحفر: ميكانيكا التربة، ومقاومة المواد، والطاقة المائية، وحركة أراضى الخلجان، والمسح المغناطيسى لقاع المجرى، دقائق هندسية، وعلوم بيئية، وتقنيات حديثة متعددة، مع خبرة إدارة المشاريع الكبرى وتنسيق العمل والتنفيذ المُمنهَج فى وقت قياسى لم يكن اندفاعةً حماسية، بل اختيارا من بين ثلاثة سيناريوهات زمنية. أمور لو كانت لدينا معلومات علمية متاحة مع ثقافة علمية فاعلة، لربما تراجع هذا اللغط عن تناول موضوع كبير عنوانه الأهم هو: ازدواج المجرى الملاحى لقناة السويس كاملا لأول مرة منذ قرن ونصف. فهل تنتبه كل الأطراف لأهمية هذه الثقافة فى الحاضر والمستقبل؟

قناة السويس أحد المعالم النادرة التى صنعها البشر وتظهر عند النظر إلى كوكب الأرض من الفضاء ولا ينبغى أن نتناولها بخفة وتغييب للعلم

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية