«كان السيسي يحتفل بافتتاح القناة، بينما يرزح عشرات الألوف من معارضيه في السجون، ويُحظر تنظيم التظاهرات، بينما نشط معارضوه للتعبير عن سخطهم على شبكة الانترنت عبر التدوين وشبكات التواصل الاجتماعي» ماذا لو قلت لك أن السطور أعلاه ترجمة لفقرة منتقاة من تقرير لنيويورك تايمز يوم 6 أغسطس الماضي؟.
«إننا بحاجة لرئيس يظهر شجاعة كتلك التي أظهرها الرئيس المصري (المسلم) عبدالفتاح السيسي حين جهر بأن التطرف الإسلامي هو الخطر الإرهابي الذي يتهدد العالم» ماذا لو قلت لك أن هذه السطور مقتطفة من تقرير منشور بواشنطن بوست يوم 7 أغسطس الماضي؟.
(2) ما الذي يعنيه لك أن يكون تقدير مراسل الجارديان في القاهرة متشائما بشأن مصر أو متحاملا ضد رئيسها؟ وما الذي يمثله لك أن يكتب مراسل فاينانشيال تايمز تقديرًا متفائلًا لأجل مستقبلنا أو مادحًا منافقًا لرئيسها؟ ما هي حجية المراسل الأجنبي عمومًا وما هو وجه القدسية الذي يتسم به ولا نعرفه؟ وما هو وجه العدالة والنزاهة المطلقة التي تتسم بها الصحف الأجنبية؟ ولماذا تهرع وسائل الإعلام المؤيدة للسيسي والمعادية له لترجمة هذه النصوص المقدسة في محاولة لإثبات أفضلية ما لهذا النظام أو لتوثيق مثلبة ما بحقه؟ ولماذا نرتضي التغطيات الأجنبية حكما ومعيارا لفهم الواقع المصري في حين يجن جنونا من انحيازها الصارخ واللا إنساني تجاه القضية الفلسطينية على سبيل المثال؟ هل شريفة في هذه وداعرة في تلك أو العكس؟ مبارك كتب قبل ذلك لصالح وول ستريت جورنال، في أعقاب الاحتجاجات العنيفة التي تعرض لها نظامه منذ العام 2005، فيما يشبه إبراء الذمة وغسيل السمعة وتبييض الوجه.
هل مجرد نشر مقال مبارك (الذي كتبه أحد بالنيابة عنه على الأرجح) في صحيفة عالمية بحجم وول ستريت جورنال، يعني بالضرورة حجية ما لكلام مبارك ضدنا نحن شعبه؟ هل الإطلالة من نافذة الخواجة تفضي بالضرورة إلى مصداقية مقدسة غير قابلة للمساس؟ هل مجرد حديثه عن الإصلاحات الاقتصادية التي انتهجها -بزعمه- والإجراءات الديمقراطية التي يمضي فيها نظامه، كفيلًا بأن نصدق نحن أن كل هذا يجري؟ قيل حينها إن نظام الرئيس المخلوع اشترى المساحة التحريرية ونشر هذا المقال وفقا لاتفاق إعلاني مدفوع. وهو إجراء شائع ضمن حزمة تعاملات تحكم خط سير الميديا العالمية، حيث عمليات الشراء المدفوع للمقالات والمواد التحريرية والفقرات التلفزيونية لصالح الترويج أو التحامل حيال نظام سياسي أو منتج تجاري أو ماشابه. وهو أمر مفهوم في سياق شراء دول عربية شقيقة لأسهم من رأسمال صحف عالمية، بذات الكيفية التي تشتري بها أسهم كبرى الأندية الأوروبية، أو تسيطر على المواد الإعلانية على «فانلات» نجوم العالم في الكرة!.
(3) وفقا لمقابلة شخصية مع الدكتور توفيق آكليمندوس، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية، فإن المراسلين الأوروبيين الشباب الذين يجيئون مصر، يتأثرون -نفسيًا بأقرانهم من الشباب المصري، لذا ينقلون وجهة نظر طرف واحد من المشهد السياسي المصري، فيما يذهب آكليمندوس إلى أن قطاعا من صحفيي اليسار في أوروبا يتعاملون مع الإسلاميين على مستويين بهما مغالطات جذرية.
أولاهما أن الإسلاميين هم الممثل الحقيقي للهوية المصرية، وأن الإسلام السياسي هو خيار الشعب المصري وماضيه وحقيقة تكوينه وجوهر إرادته، لذا فإن الانتصار في التغطيات الصحفية لموقف الإسلاميين ضد النظام هو انتصار لإرادة الجماهير العريضة! وثانيهما: أن قطاعا ضخما من العمال في أوروبا يتألف من المهاجرين المسلمين، ما يؤسس –من وجهة نظر هذا الفصيل صحفيين محسوبون على تيارات يسارية- أن الثورة العمالية القادمة بدرجة من الدرجات ستكون «مسلمة»! وهو ما يتشابك بدرجة أو بأخرى مع رؤية تيار يساري في الصحافة الفرنسية، أكثر تطرفا، يعادي فكرة «الدولة» من الأساس ويراها الراعي الرسمي للقمع ولسوء توزيع الثروات، والحل لديهم في هدم فكرة الدولة من الأساس. ومن ثم فالحل في مؤازرة «أعداء الدولة». والأمر ليس تآمريًا بمقدار ما هو انسياق تحت عناوين أيديولوجية سفيهة، ترى وجاهة ما في مثل هذه الأفكار.
يلتقي هذا التشريح مع ما قاله الناشر والكاتب المصري هشام قاسم قبل عامين تقريبا في أحد اللقاءات التلفزيونية من أن انحياز بعض الصحف الغربية في تغطيتها للإخوان، هو من قبيل الشعور بالذنب التاريخي تجاه «الإسلاميين». وكله يقع بصورة أو بأخرى تحت عنوان عريض، وهو الرؤية الاستشراقية القاصرة التي تسعى لقراءة أوضاع المنطقة وفق ثنائيات غير دقيقة أو انطلاقًا من فرضيات عفا عليها الزمن. وهو أمر يستحق بذاته أن يفرد له مساحة واسعة للنقاش.
(4) بمعزل عن عمليات النشر المدفوع الأجر، وبمعزل عن القناعات السياسية والتأثرات الجيلية المتبادلة التي تهيمن بصورة أو بأخرى على تغطية المراسلين الأجانب والصحف الغربية، هناك عامل خطير جدا، وهو العنصر المهني المجرد. شاهدنا قبل نحو 8 شهور الفضيحة التي تورطت فيها وكالة أنباء الشرق الأوسط التي حرفت تقريرا لدافيد كيركباتريك مراسل نيويورك تايمز بالقاهرة. التقرير كان هجوما حادًا وانتقادًا عنيفا ضد نظام السيسي، وبقدرة قادر تحول على يد مترجمي الوكالة الرسمية إلى وصلة مدح ركيك وممجوج في جناب الرئيس المصري! وعلى أثر الفضيحة استباح كيركباتريك دماء الإعلام المصري- ومعه الحق كل الحق- وتولى حملة تجريس مستحقة، ضد الذين حرفوا كلامه على هذا النحو. لكن تغطيات كيركباتريك نفسه من القاهرة كانت محل انتقاد مراقبي الأداء الإعلامي في الولايات المتحدة.
ففي تقرير لـ «Imediaethics» انتقاد مغلف بسخرية حول تجهيل كيرباتريك لمصادر معلوماته من القاهرة، انطلاقا من تقرير عن أدائه، اعتمد على تحليل محتوى 125 مقابلة أجراها مراسل الجريدة العريقة في القاهرة، ولم يكن أداؤه فيها موثوقا ولا مهنيا كما ينبغي. «ImediaEthics» أعدت سلسلة تقارير عن اختلال «توازن ومهنية» التدفيق الإخباري من القاهرة على مدار العام الماضي فيما يخص تغطية قضية «خلية الماريوت»، وهي مادة جيدة جديرة بالإطلاع إذا ما أردنا إمعان النظر في سقطات الصحافة الغربية في تغطيتها من مصر.
(5) الغرض من هذا المقال ليس التشكيك في قدرات الصحفي الأجنبي، ففي نهاية المطاف يؤدي المراسل الغربي عمله بعد تأهيل مهني رفيع – في الأغلب- قلما يتوفر مثله لنظيره المصري، فضلا عن عمل الصحف الكبرى وفق منظومة تشغيل أكثر تطورًا واحترافية تفوق نظيراتها في مصر. لكنها في نهاية المطاف مؤسسات «بشرية»، يعتريها الفشل والفساد والانحياز.
وهو ما يحاجج به الواحد، لكيلا ننزل كتابات المراسلين الأجانب هذه المنزلة الفائقة، لنؤيد بها رأي فريقنا أو لنهاجم بها خصومنا السياسيين. فلست بحاجة لتقرير من مراسل الإيكونوميست لأعرف أن انحيازات النظام الاقتصادية غير متضحة المعالم وأنها في معظمها امتداد لسياسات نظام مبارك، ولست بحاجة لتحقيق في الجارديان عن التعذيب في السجون والمعتقلات كي أدرك أن سلخانات السجون تعمل بكامل كفائتها ماتزال! ولست بحاجة، بالمقابل، لأدرك أن هناك تغطيات – أقل ما توصف به أنها منحطة- من قبل وكالات أنباء عالمية (رويترز أنموذجًا في عدد من تغطياتها) تجاه الوضع في مصر، تسعى فيه لتصوير أن أنصار بيت المقدس أو سواهم مجرد فصائل معارضة سياسية وليست كيانات إرهابية مسلحة! لست بحاجة لتقرير من يو إس إيه توداي، لأعرف أن الأمور في مصر أضحت أكثر استقرارًا وأن النظام الحالي يسابق الزمن لأجل تدارك أزمات الكهرباء والمياه، ويسعى لإنشاء عدة مشاريع عملاقة. ثم أنا لست بحاجة لأن يضللني أحد باجتزاء تصريح لمصدر غربي، أو بانتقاء فقرة من «مقال» يعبر عن رأي كاتبه، كي أرى الحقيقة بعيون زرقاء وشعر أشقر. فها أنا أسمع وأرى، وأجادل أنني أفهم بلادي بأكثر مما يفهمها دافيد كيركباتريك أو باتريك كينجسلي.
*** رابط نيويورك تايمز عن السيسي الديكتاتور:
http://www.nytimes.com/2015/08/07/world/middleeast/as-egypt-unveils-its-new-suez-canal-dissenters-make-voices-heard-online.html?_r=0
رابط واشنطن بوست الذي يتغزل فيها قادة الكونجرس في شجاعة السيسي:
https://www.washingtonpost.com/news/worldviews/wp/2015/08/07/gop-debate-highlights-republicans-obsession-with-egypts-sissi/
رابط تقييم أداء كيركباتريك:
http://imediaethics.org/ny-times-never-called-me-anonymous-sources-fact-check-failures-rule-in-egypt-analysis-reveals/?new
رابط تقييم لبعض نماذج الأداء الصحفي الغربي من مصر فيما يخص خلية الماريوت أو قضية صحفيي الجزيرة:
http://imediaethics.org/special-investigations/investigating-reporting-on-egyptal-jazeera/