الصوفى ليس كالإخوانى أو السلفى أو الطالبانى أو القاعدى أو الوهابى أو «الجهادى»، أو الداعشى أو أىٍّ من الذين يتمسَّحون في الدين، ويتخذونه لباسًا وتجارةً، ومقصدًا للتكسب، والعيش في ترفٍ وثراءٍ.
إنه يبذلُ ويُعطى ويمنح ويُشرِق ويتجلَّى ويَعرُج من أجل دينه، يضحِّى دون انتظارٍ لأجرٍ، أو منصبٍ أو جاهٍ، بل هو يتخلَّى طواعيةً عن رغدِ العيش، وكُل ما يتعلَّق بالسلطانِ والسلطة، ليعيشَ فقيرًا إلى الله، لا يبتغى من الحياة الدنيا درجةً ما، إذ هو يصعد كل ثانيةٍ درجات مقاماته وأحواله.
ولمَّا كانت مصر قبل سبعينيات القرن الماضى تحتفل وتحتفى بأقطاب التصوف وشيوخه وأوليائه، وتُقام الموالد في النجُوع والقرى والمدن، كانت السماحة والوسطية والاعتدال هي الأسس التي تُعرُج فيها مصر نحو سماء الرحمة لا الحقد والبغضاء، نحو ثراء النفس لا ثراها، نحو نور الروح لا ظلامها المُنسدل، نحو الاتساع لا التمذهُب، وتغليب الطائفة على الدين الحق، نحو الآمال لا الدم وقطع الرؤوس والأرزاق، نحو الابتهال لا الهَبَل والشيطنة، وتكفير خلق الله، نحو العفو لا العقاب غِيلةً وقتلا، نحو العدل لا الجوْر.
ولكنْ ضيَّق السلفيون والإخوان الخناق على الناس في القرى، فحرَّموا وجرَّموا الموالد، ولم يعُد يقام منها إلا القليل خُصوصًا في القاهرة، بينما حُرِمتْ قرى الدلتا والصعيد من الاحتفال بالتصوف والمُتصوفة من خلال ممارسة طقوس الموالد، التي ينخرط فيها عشرات الملايين من المصريين، يضاف إلى ذلك من عاد من المصريين الذين كانوا يعملون في بعض دول الخليج العربى التي ترى التصوف كفرًا صريحًا وزندقةً، فوجدنا أن الأزهر والأوقاف في مصر لم يعُودا يهتمان بالتصوف، كأنهما وهُما بالفعل يُجاملان مذهبًا ما، مع أن الدين يخلو من الإرضاء والتبعية، ومنذ تصدِّى عبدالحليم محمود- وحده في حقبة السبعينيات- للمدِّ الأصولى الزاحف من رمال الصحراء، ونشره لعشرات الكتب عن أقطاب التصوف، وشيوخ الوقت ورؤسائه، لم نرَ اهتمامًا حقيقيًّا بالتصوف، ولذا لا أستغرب عندما أعرف أنَّ الشيخ الدكتور عبدالحليم محمود الشيخ الأسبق لجامع الأزهر، والدارس في جامعة السوربون الفرنسية العريقة، كان منبُوذًا، وغير مرضىٍّ عنه لدى كثيرين حتى داخل الأزهر نفسه، الذي كان شيخًا له، لأنه كان الأكثر علمًا ونقاء وسماحة وتواضعًا، إضافةً إلى كُره طوائف ومذاهب له، لأنه ابنٌ للتصوف، وليس واحدًا فقط من كبار دارسيه، إذ كشف لنا أسماء لم يكن أهل الكشف يعرفونها، فمنذ الإمام جلال الدين السيوطى، الذي ألف كتاب «المكنون في مناقب ذى النون»، لم يكتب أحد عن ذى النون المصرى رائد التصوف الإشراقى في مصر(ولد في أخميم في مصر سنة 179 هـ الموافق 796م وتوفى سنة 245 هـ الموافق 859م ) إلا عبدالحليم محمود (2 من جمادى الأولى سنة 1328هـ- 12 من مايو 1910م- 15 من ذى القعدة 1397هـ- 17 من أكتوبر 1978).
وما أحوجنا إلى ألف عبدالحليم محمود آخر، ليعدلوا كفة ميزان الحياة الدينية في مصر، ويبتعد الأهل عن التشدُّد والتطرُّف، إذْ لا يعرف المتصوفة سوى التشدُّد في المحبة والوجْد، والفناء في المحبوب، والاتحاد مع الله، لا مع المال.
لأنهم أصحابُ مآلٍ بينما غيرهم من الذين يرتدون الدين زيًّا أصحاب مَلَلٍ ومِلَلٍ؛ لأن المتصوف يغوى نحو الحب، وسواه يغوى نحو الدم، حيث يأخذ بيد السالك نحو طريق الزهد والصدق بعيدًا عن غرائز السلطة، وشهوات الكرسى، حيث لا أهواء ولا نزعات للانتقام والفتك بمن لا يُماثل في المذهب، إذْ الصوفى طالبُ آخرةٍ، وسواه من السلفيين والإخوان وغيرهم من أهل التشدُّد طالبُ دنيا.
والتصوف يُميت غرائز وشهوات النفس أو على الأقل يحدُّ منها، لأن المتصوف في سمو، حيث لا ظُلْم ولا عدوان، ولا فساد ولا طغيان، وإذا كان تاريخ الأنبياء جميعًا هو سلسلة من الجهاد للارتقاء بالإنسان، فإن «جهاد» المِلل والطَّوائف من «كذبَة العصر»، هو سفك دم الإنسان، والحط من شأنه، وقطع رأسه لمجرَّد أنه مختلف دينيًّا أو مذهبيًّا.
لكَم تمنيتُ أن يكون حكم «لابسى الدين» وسيلةً إلى الدعوة لا إلى الدعاية، وليس غايةً للجلوس على العرش، على العكس- تمامًا- من المتصوف الذي لا يجد متعةً في التحكُّم والسيطرة وبسط النفوذ، واحتلال المواقع، ونفى الآخر وإقصاء المختلف معهم، أو الاستمتاع بملذَّات الحياة، في حين نجد «رجالا» من المتأسلمين يكنزون المال، ويجمعون النساء ويرضون شهواتهم.
لقد صار الحكم عند الإخوان والسلفيين «ملكًا عضوضًا»، فمثلهم لم يقرأ ما قاله الرسول (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ).
إن المتصوفة يتحلون بمكارم الأخلاق والخُلق القرآنى، والرسول لهم أسوةٌ حسنة، لأنهم يرجون الله واليوم الآخر، ويذكرون خالقهم ذكرًا كثيرًا، بينما رأينا في سنة حكم الإخوان لمصر كيف أن لمجموعة من «الدعاة- أدعياء الدين الجُدد» يخرجون من تحت الأرض إلى القنوات التليفزيونية يملأون الفضاء سبًّا وشتمًا، يتكلمون بلغةٍ رخيصةٍ وضيعة مُجرَّدةٍ من الدين والأدب معا من عينة أستاذ النقد والبلاغة بجامعة الأزهر محمود شعبان «!» صاحب المقولة التي صارت مثلا سائرًا «هاتوا لى راجل»، والمعروف برفع حذائه لمن يختلف معه في الرأى، مرورًا بحرق الأناجيل في الساحات والميادين، والنيْل ممن هو مختلفٌ مع الإخوان والسلفيين، ومن سار في ركابهما.
وربما لا يعرف الكثيرون- بحكم حجب الحقائق وتسييد حقيقة واحدة في التاريخ الإسلامى- أن الإسلام انتشر في أفريقيا وآسيا بفضل «الفتوحات الصوفية»، خُصوصًا عبر الطريقة الشاذلية نسبة إلى أبى الحسن الشاذلى «571 هجرية- 656 هجرية»، والطريقة القادرية أو الجيلانية أو الكيلانية نسبة إلى عبدالقادر الجيلانى (470 هـ- 561 هـ)، والطريقة المولوية نسبةً إلى مولانا جلال الدين الرومى (1207 – 1273 ميلادية)، لأن المتصوفة تجرَّدوا من الكسب، وعاشوا في الأرض من خلال الوهب، عبر سلوكهم وممارساتهم، ومدارجهم كسالكين للطريق الصوفى، وسائرين إلى الله، حيثُ يعيشون في منازل أرواحهم .